قوله تعالى : { وإنْ خِفْتُم شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ{[936]} أَهْلِهَا } الآية :[ 35 ] : اختلف الناس في المخاطبين بهذا الخطاب :
فقال سعيد بن جبير : " إنه السلطان الذي يترافعان إليه " ، وقال السدي : الرجل والمرأة ، قال الشافعي رضي الله عنه : والذي يشبه ظاهر هذه الآية ، أنه فيما عم الزوجين معاً حتى يشتبه فيه حالاتهما ، وذلك أني وجدت الله تعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وسن في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفها أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك شبيه أن يكون برضا المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئاً ، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلم أمن فيمن خفنا الشقاق بينهما الحكمين ، دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكماً من أهله ، وحكماً من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين ، ويوكلهما الزوجان بأن يجْمعا أو يُفرقا إذا رأيا ذلك ، ووجدنا حديثاً بإسناده عن عليّ يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وهو أصح المذاهب للشافعي ، وإن حكى عن الشافعي فيه قول آخر على موافقة مذهب مالك ، وهو أن الحكمين ينفردان دون رضا الزوجين إذا رأيا ذلك ن وهو بعيد ، فإن إقرار الزوج بالظلم لا ينافي النكاح ، ولا ظلم المرأة مناف لذلك ، والظلم إذا ظهر من أي جانب كان ، وجب دفعه بطريقة ، فأما أن يكون ظهور ظلم الظالم بينهما للحكمين طريقاً إلى دفع النكاح دون رضا الزوجين فلا ، وليس يزيد ظهور ذلك ظلماً على إقرار الزوج أو الزوجة{[937]} بالظلم .
نعم قد يقول القائل : إذا استمرت الوحشة ، فلا وجه لتبقية الخصومة ناشبة بينهما ، فاشتباه الحال في ذلك ، كاشتباه الحال في المتتابعين إذا تخالفا .
وهذا بعيد ، فإنهما إذا تخالفا فلا يتصور بقاء العقد على نعت الاختلاف ليكون العقد على وضعين متضادين ، وهاهنا لا شيء يوجب منع بقاء العقد ، وخللاً في معنى العقد ، إنما يظهر من أحدهما ظلم فيدفعه الحاكم فأما فسخ النكاح فلا ، وليس كالإيلاء ، فإن هناك رجع النعت إلى المقصود وهو الإستمتاع .
وبالجملة إن كان للقول الآخر وجه ، فمن حيث وقوع الخلل في السكن المقصود بالنكاح ، لاستمرار الخصومة بينهما ، وذلك يقتضي أن يكون هذا قريباً من الإيلاء ، وقد قال مالك : وللحكمين أن يخالعانها دون رضاها ، وهذا بعيد ، فإن الحكم لا يملك ذلك ، فكيف يملكه الحكمان{[938]} ؟ . .
نعم سميا حكمين - وإن كان الوكيل لا يسمى حكماً - لأنه أشبه فعلهما ، فهما يجتهدان ويتحريان الصلاح في إنفاذ القضايا بالعدل ، إذا وكلا بذلك من جهة الزوجين ، وما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ولكن برضا الزوجين لا دون رضاهما ، والله تعالى إذا رأيناه يقول : { فَإنْ خِفْتُم أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيما افْتَدَتْ بِهِ{[939]} } فكيف يفهم منه جواز الخلع دون رضا الزوجين ، وقد حظر الشرع أخذ شيء منها دون شريطة الخوف .
ودلت الآيات المطلقة ، على أن لا يحل أكل المال إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم ، ودل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، على أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ، وفي رواية : بطيبة من نفسه{[940]} .
قوله تعالى : { واعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ } الآية [ 36 ] : يدل على أن من أتى بطاعة لغير الله ، لا تقع عن جهة القربة ، لأنه أشرك به شيئاً ، وترك الإخلاص ، ولأجله قال علماؤنا : من توضأ أو اغتسل لتبرد أو تنظيف ، لم يكن له أن يصلي به ، لأنه أشرك به شيئاً . فإذا خرج الفعل عن كونه لله ، فلم يكن قربة ، ولذلك قلنا : إذا أحس بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره ، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه لله خالصاً ، ثم قال تعالى : { وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانا } : فأوجب الله تعالى طاعة الوالدين في غير معصية الخالق ، ولا يعني بطاعة الوالدين أن يكون لهما صرف منافع بدنه بعد البلوغ إلى ما شاء ، وتكليفهما أفعالاً ، وإنما هو على ما ذكره الله تعالى : { إما يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا }{[941]} الآية . . وليس للوالدين منع الولد من الأسفار للتجارة والزيارة وطلب الفوائد . . نعم يكره له أن يجاهد دون إذنهما ، فإن في ذلك تغريراً بالمهجة .
ومن تعظيم الوالدين أن لا يقتله الولد ، إلا إذا كان محارباً كافراً{[942]} .
ثم ذكر الجار ذي القربى ، وهو الجار الذي له حق القرابة ، والجار الجنب{[943]} ، للبعيد منك نسباً ، إذا كان مؤمناً ، فيجتمع حق الجوار والإيمان ، وورد في حق الجار أخبار عدة{[944]} .
والصاحب بالجنب : قيل هو الرفيق في السفر ، وقيل هو الجار الملاصق ، وخصه الله تعالى بالذكر تأكيداً لحقه على الجار غير الملاصق .
والجار لفظ مجمل يتردد بين معاني ، فقد يقال لأهل المحلة جيران ، ولأهل الدرب جيران ، وجعل الله تعالى الاجتماع في مدينة جواراً قال الله تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ والذيِنَ فيِ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فيِ المَديِنَةِ } إلى قوله : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلا{[945]} } : فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً .
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة{[946]} ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة ، وكف الأذى والمحاماة دونه .
وابن السبيل : هو المسافر ينزل عندك فتكرمه وتضيفه . { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ } : هو الإحسان إليه بالإنفاق ، وكسوته ومراعاته بالمعروف .
هذا هو الأصل ، فجمعت الآية أموراً منها الندب ، ومنها الواجب .