قوله تعالى : { فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ } ، الآية :[ 5 ] :
وفيه سؤال : وهو أن النداء إنما كان يوم الحج الأكبر ، والأشهر الحرم : ذو القعْدَة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وهذه الثلاثة سرد ورجب فرد ، فإذا ثبت ذلك ، فكيف يقول : { فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ } ، وما بقي إلا أيام قلائل ؟
وأجيب عن ذلك من وجوه : منها : أنه لما كان آخر الأشهر الحرم المحرم ، وكان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر ، جاز أن يعلق قتال الكفار به . والوجه الثاني : أن المراد بالأشهر الحرم : الأربعة التي حرم الله تعالى فيها قتالهم وأمنهم فيها ، وهي : من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر .
فقوله تعالى : { الأَشهُرُ الحُرُمُ } : هي التي حرم الله تعالى فيها القتل فقط ، ولم يعن بالحرم الثلاثة السرد والواحد الفرد ، وإنما أراد الأربعة المتوالية من وقت العهد إلى العاشر من ربيع الآخر ، وهو قول الحسن . وفيه شيء ، وهو أن اسم الأشهر الحرم لا يتعارف منه غير المعهود ولا يصير بسبب العهد الأشهر مسماة بالحرم ، فلا جرم اختار كثير من العلماء القول الأول .
وقال الأصم : أريد بالآية من لا عهد له من المشركين ، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ المحرم ، وهو مدة خمسين يوماً على ما ذكره ابن عباس .
قوله تعالى : { فاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم وَخُذُوهُم واحصُرُوهُم واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد{[1373]} } : يدل على جواز الأسر بدل القتل والتخيير بينهما ، ويدل على جواز قتلهم ، أو أسرهم ، على وجه المكيدة ، لقوله تعالى : { واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد } .
وقال ابن عباس في قوله : { لَستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِر }{[1374]} و { مَا أَنتَ عَلَيهِم بِجَبّار }{[1375]} وقوله : { فاعْفُ عَنهُمْ واصْفَحْ{[1376]} } ، وقوله : { قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ{[1377]} } ، قال : نسخ هذا كله بآية السيف وهو قوله تعالى : { اقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم } ، الآية ، وقوله : { قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بِاليَومِ الآخِرِ{[1378]} } ، الآية .
وقال موسى بن غفلة : كان النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يكف عمن لا يقاتله ، لقوله تعالى : { وأَلقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيهِم سَبِيلاً{[1379]} } ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ } - إلى قوله - { فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فاقتُلُوا المُشرِكِينَ } ، الآية .
وعموم ذلك يوجب قتل كافة المشركين من أهل الكتاب وغيرهم ، فإنه جعل المرد { فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ } ، إلا أن الأخبار وردت في أخذ الجزية . ويجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتابين ، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم .
واعلم أن مطلق قوله : { اقتُلُوا المُشرِكِينَ } ، يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان ، إلا أن الأخبار وردت في النهي عن المثلة ، ومع هذا يجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه ، لما قتل أهل الردة بالإحراق بالنار ، والحجارة ، والرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار ، تعلق في ذلك بعموم الآية .
وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوماً من أهل الردة ، بالإحراق بالنار ، يجوز أن يكون ميلاً إلى هذا المذهب واعتماداً على عموم اللفظ .
قوله تعالى : { فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم{[1380]} } :
هذه الآية فيها تأمل ، فإن الله تعالى علق القتل على الشرك ، ثم قال : { فإنْ تَابُوا } ، والأصل ، أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله ، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة ، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة وإيتاء الزكاة ، فهذا بين .
غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين ، فلا سبيل إلى إلغائهما ، وصح أن الصدّيق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة ، لا من جحد وجوب الزكاة فقط ، بل مَن قال لا أؤديها إليك ، فقال أبو بكر : " لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1381]} " ،
وإنما فعل ذلك ، فهم العلماء منه قتال مانعي الزكاة ، لأن الله تعالى شرط أموراً ثلاثة في ترك القتال ، فلا بد من وجودها جميعاً ، ودل قوله تعالى في موضع : { فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلوا سَبِيلَهُم } ، وقال في موضع آخر : { فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فإخوَانُكُم في الدِّينِ{[1382]} } .
على أن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مُدخلاً في تخلية سبيلهم ، كما أن للتوبة مُدخلاً في ذلك ، وبذلك احتج أبو بكر رضي الله عنه في أن التوبة لا تكفى في تخلية سبيلهم والكف عن قتلهم ، حتى ينضاف إليها فعل الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقال إنه صلى الله عليه وسلم قال : " فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها{[1383]} " ، فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام ، وذكر أن الزكاة من حقها ، وتعلق علي بذلك في قتال الفئة الباغية ، وذهب إلى أن المشركين إذا أسلموا ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة ، حل قتالهم وقتلهم .
وقال بعضهم : إنما أراد بذلك الاعتراف بالصلاة والزكاة لا فعلهما ، فمن جحد أحدهما فقتله مباح ، وهذا يستأصل وجه التخصيص .
فإن قيل : فإذا تاب قبل وقت الصلاة والزكاة فلا قتل عليه ، ولم يقم الصلاة ولا الزكاة جميعاً . الجواب : أن التوبة إن كفت على هذا الرأي ، فذكر الصلاة والزكاة لغو ، وهو بمثابة من يقول : فإن تابوا ودخلوا الدار ولبسوا الثوب . . نعم ، فهمنا من جعلهما شرطاً خروج ما قبل حالة الوجوب ، لأنه لا يجوز أن يجعلهما شرطاً ، ولما وجبا ولزما .
فالظاهر ما قاله الصدِّيق ، وهو جواز محاربتهم{[1384]} إذا امتنعوا من القيام بهما ، وقد كان كثير من الناس يعترفون بوجوب الزكاة ، لكنهم كانوا يمتنعون من دفعها إليه ، وأمر مع ذلك بمحاربتهم وقال : لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، فتبين بذلك أن الزكاة للإمام فيها حق الأخذ ، فمتى امتنعوا وانحازوا إلى فئة حل قتالهم وقتلهم ، ما داموا مصرين على الامتناع ، وكذلك إذا امتنعوا من الصلاة ، وفعلها على وجه يظهر .
فإن قيل : فقد خص الله تعالى هذا بالمشركين وقتالهم ، فمن أين أن هذا جائز في حق المؤمنين ؟ والجواب : أنه إذا ثبت أن التوبة تسقط القتل ، و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة تسقط القتل ، فمقتضاه : أن المشرك إذا تاب ولم يصل ولم يزك وجب عليه القتل ، وهذا ما نقوله .
يبقى أن يقال : إن الآية أوجبت التسوية بين منع الصلاة ومنع الزكاة ، والشافعي يخصص بالصلاة . والجواب : أن عند الشافعي لا فرق بين البابين ، إلا أن في الزكاة أخذها ممكن قهراً ، وفي الصيام يمكن أن يحبس في موضع فيجعل ممسكاً ، والركن الأعظم في الصوم الإمساك ، فأما الصلاة ، فاستيفاؤها منه غير ممكن ، فكان قتل تارك الصلاة من حيث تعذَّرَ استيفاؤها منه ، بمثابة قتل تارك الزكاة إذا انحاز إلى فئة .