الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا :
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ( أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ من رُطَبٍ ، فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ . . . الْآيَةَ قَالَ : هِيَ النَّخْلَةُ ) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ . . . ) الْحَدِيثَ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هِيَ النَّخْلَةُ ) ، فَذَكَرَ خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ : وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ شَهْرَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ سَنَةٌ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ :
اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ ، فَنَقُولُ : إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ ، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً ، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ من عُلَمَاءِ اللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً ، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْأَبَدِيَّةِ ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ كقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ } . وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ ، لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ فِيهِ ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ من الذَّنْبِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ : { وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ } .
وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ .
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ من حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ . وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى حِينٍ } .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ .
وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ ؛ لِأَنَّهُ اللُّغَةُ وَالْمَجْهُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ لِأَنَّهَا كُلُّهَا تَخْرُجُ من ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَرَوَى أَشْهَبُ ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ من الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ } .
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } فَهَذَا سَنَةٌ ، وَالْحِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } ، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ .
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : إنَّ الْحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ تُرْطِبَ ، وَمِنْ حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ . وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } .
قَالَ الْقَاضِي : الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ سَنَةٌ ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَتَبَايَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ من كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ . وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ ، وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ سَنَةٌ .
وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا . وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ ، فَقَالَ : سِتَّةُ أَشْهُرٍ . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً ، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ :
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ ، وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ ، لَا بِالْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ ، فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ . وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً ، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا من أَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَتَوَسَّطَ ، فَقَالَ سَنَةً ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ الدَّارَ حِينًا : وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ الْحِينِ ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ من يَوْمٍ ، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ . وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ ؛ فَيُرَكَّبُ الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا ، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا ، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا ، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا ، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا ، وَهُوَ أَوْلَى من اللُّغَةِ عِنْدَنَا ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ " ص " وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .