الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } . فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ حَلِفِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اتَّخَذَ إبْلِيسُ تَابُوتًا ، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ يُدَاوِي النَّاسَ ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةَ أَيُّوبَ ، فَقَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنَّ هَاهُنَا إنْسَانًا مُبْتَلًى فِي أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَهَلْ لَك أَنْ تُدَاوِيَهُ ؟ قَالَ لَهَا : نَعَمْ ، عَلَى أَنِّي إنْ شَفَيْته يَقُولُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ : أَنْتَ شَفَيْتنِي ، لَا أُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَهَا . فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ ، فَقَالَ : وَيْحُك ، ذَلِكَ الشَّيْطَانُ ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك مِائَةَ جَلْدَةٍ . فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ من قَوْلِهِ : إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ ، وَقَدْ كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا ، فَبَاعَتْ ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ ، فَقَالَ مَا قَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا :
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا لأيوب خَاصَّةً ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً ، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } .
قَالَ الْقَاضِي : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » .
وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، وَعِمَادُ الْأَعْمَالِ ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ .
وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَفَانِي اللَّهُ جَلَدْتُك . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ التَّأْوِيلِ ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ الدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنْهُ نَذْرًا لَا يَمِينًا ، وَإِذَا كَانَ النَّذْرُ مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كُلِّ نَذْرٍ كَفَّارَةٌ ، وَهَلْ مَخْرَجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْإِجْمَالِ ؟