/م41
44-{وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تخنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} .
كان أيوب في مرضه قد كلّف زوجته بأمر ،فأبطأت عليه ،فأقسم بالله لئن شفاه الله ليضربنها مائة ضربة ،ثم تمّ الشفاء ،ورغب في أن يبّر بقسمه ،وفي نفس الوقت كانت زوجته وفيّة له في محنته ،تعطف عليه ،وتتألم لألمه ،وتغمره بعطفها وحنانها وخدمتها ،بعد أن تفرق عنه الأهل والأصحاب ،فأمره الله أن يأخذ حِزْمة من حشيش أو ريحان ،يختلط فيها الرطب باليابس فيها مائة عود ،فيضرب زوجته ضربة واحدة ،فيبر في يمينه ولا يحنث ،وفي نفس الوقت ييسّر على زوجته الصابرة الوفية .
قال تعالى:{وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تحنث ...}
حيث أمره الله أن يتحلل من قسَمِه بأهون شيء عليه وعليها ،والضغث في اللغة: القبضة من الحشيش ،اختلط فيها الرطب باليابس ،وقيل: هي قبضة من عيدان مختلفة ،يجمعها أصل واحد .
{إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} .
يأتي هذا الثناء من العلي القدير ،تقديرا لصبر أيوب وثباته ،ورجوعه إلى ربه ،ولا يقال إنه اشتكى ،لأن الشكوى لله تعالى تضرع ودعاء ومناجاة ،فقد قال يعقوب:{إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ...}[ يوسف: 86] .
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آذاه أهل الطائف:"اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ،يا رب العالمين ،أنت رب المستضعفين وأنت ربّي ،إلى من تكلني ؟إلى عدو يتجهمني ،أو بعيد ملكته أمري ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ،أن ينزل بي سخطك ،أو يحلّ عليّ غضبك ،لك العتبى حتى ترضى ،عافيتك هي أوسع لي ،ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
وتضرع يونس في بطن الحوت ،وظلام البحر ،وظلام النفس:{فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} .[ الأنبياء: 87] .
لقد تعرض الأنبياء والمرسلون لكثير من الآلام في الدنيا ،فكانوا يرفعون أكفّهم إلى الله ،يشتكون البلاء ويسألون الله العافية ،لقد وضع في النار إبراهيم ،وأضجع للذبح إسماعيل ،واشتد البلاء بأيوب ،وبكى يعقوب:{وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} .[ يوسف: 84] .
وخرج موسى من مصر خائفا يترقب قال: ربي نجني من القوم الظالمين ،واشتد الجوع والمعاناة بموسى ،فقال:{رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمينّ} .[ القصص: 24-25] .
وتعرض المسيح لمحاولة قتله وصلبه ،قال تعالى:{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ...} .[ النساء:157] .
وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة ملحمة طويلة من العمل والأمل والأحزان ،والدعاء الذي حفلت به كتب السّنة ،فقد اشتكى إلى الله حين قُتل سبعون من القراء عند بئر معونة ،وألحف إلى ربه في الدعاء عند الهجرة ،وعند غزوة بدر ،وفي غزوة الأحزاب جثا صلى الله عليه وسلم على ركبتيه في ليلة باردة شاتية ،وقال:"اللهم رب الأرباب ومسبب الأسباب اهزم الأحزاب ،اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين ،يا جار المستجيرين ،ويا أمان الخائفين ،يا ملاذ المضطرين ،انصرنا عليهم يا رب العالمين ،فأرسل الله ريحا عاتية ،خلّعت خيام الكافرين ،وكفأت قدورهم ،وألقى الله الرعب في قلوبهم ،ففرّوا مذعورين .
قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} .[ الأحزاب: 9] .
فاللجوء إلى الله والشكوى إليه ،والتضرع والدعاء ،عبادة وتذلل وإنابة .
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"عجبت لمن ابتلي بثلاث كيف يغفل عن ثلاث: من ابتلي بالمرض كيف يغفل عن دعاء أيوب لربّه:{أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} .[ الأنبياء: 83] .
ومن ابتلى بالغم كيف يغفل عن دعاء يونس:{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} .[ الأنبياء: 87] .
فإن الله تعالى يقول:{فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} .[ الأنبياء: 88] .
ومن ابتلي بالأعداء كيف يغفل عن قول المؤمنين:{حسبنا الله ونعم الوكيل} .[ آل عمران: 173] .
فإن الله يقول:{فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم .[ آل عمران: 174] .
والخلاصة:
إن شكوى أيوب إلى ربّه ،دعاء وتضرع وإنابة ،وقد استجاب الله دعاءه ،وفرّج كربه ،وانعم عليه بالشفاء ،ويسر له التواصل مع زوجته الصابرة ،ثم أثنى عليه ثناء خالدا أبدا الآبدين ،فقال:{إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} .
لقد وجدناه صابرا محتسبا ،نعم العبد الطيع لربه ،أنه أوّاب كثير الأوبة والرجوع والذكر والتسبيح لله رب العالمين .
من دعاء أيوب
روى أن أيوب كان يقول كلما أصابته مصيبة: الله أنت أخذت ،وأنت أعطيت ،وكان يقول في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ،ولم يتبع قلبي بصري ،ولم يلهني ما ملكت يميني ،ولم آكل إلا ومعي يتيم ،ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان .