الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ مُعْضِلَةٌ فِي الْآيَاتِ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ عَلَى عِلْمِهَا ، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ ، ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مُتَّصِلٌ لَمْ يَرْفَعَ مَا بَعْدَهُ مَا قَبْلَهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي } هُوَ جَمْعُ الَّتِي ؛ كَلِمَةٌ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : " الَّذِي " يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً ، وَجَمْعُهُ الَّذِينَ ، وَقَدْ تُحْذَفُ التَّاءُ فَتَبْقَى الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فَتَجْرِي بِحَرَكَتِهَا ، قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَخْزُومِيُّ :
مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً *** وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْفَاحِشَةَ } :
هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ تَعْظُمُ كَرَاهِيَتُهُ فِي النُّفُوسِ ، وَيَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي الْأَلْسِنَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِشَهْوَةِ الْفَرْجِ إذَا اُقْتُضِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا أَوْ الْمُجْتَنَبِ عَادَةً ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الزِّنَا إجْمَاعًا ، وَفِي اللِّوَاطِ بِاخْتِلَافٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللِّوَاطَ فَاحِشَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } :
يُقَالُ : أَتَيْت مَقْصُورًا ؛ أَيْ جِئْت ، وَعَبَّرَ عَنْ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجِيءِ ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ إلَيْهِ يَكُونُ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ نِسَائِكُمْ } :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } . وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } . وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ ؛ قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى ، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ ، وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ ، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ لِلْأَعْظَمِ وَالْأَقَلُّ لِلْأَصْغَرِ ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي النِّسَاءِ جَمِيعًا : إحْدَاهُمَا فِي الثَّيِّبِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِكْرِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ الْحِكْمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ نِسَائِكُمْ } بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } يَعْنِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحُدُّ الْكَافِرَةَ إذَا زَنَتْ ، وَذَلِكَ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } :
وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ مِن الْأُمَّةِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ . . . }الآية .
فَشَرَطَ غَايَةَ الشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الْمَعْصِيَةِ لِأَعْظَمِ الْحُقُوقِ حُرْمَةً ، وَتَعْدِيدُ الشُّهُودِ بِأَرْبَعَةٍ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ؛ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : «جَاءَت الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ ، فَأَتَوْهُ بِابْني صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا اللَّه كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ ؟ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا . قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ . فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمَهُمَا » .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ عُدُولًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ وَالرَّجْعَةِ ، فَهَذَا أَعْظَمُ ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمَّةٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الْقَتْلُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الزِّنَا ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ بِشَاهِدَيْنِ ، فَمَا هَذَا ؟
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْإِيَالَةَ الرَّبَّانِيَّةَ اقْتَضَت السَّتْرَ فِي الزِّنَا بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّتْرِ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ ، بَلْ بِلَوْثٍ وَقَسَامَةٍ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْكُمْ } : الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا { مِنْ نِسَائِكُمْ } ، ثُمَّ قَالَ : { مِنْكُمْ } ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ شَهِدُوا } .
الْمَعْنَى فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الشُّهَدَاءَ ، فَإِنْ شَهِدُوا . وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ وُجُوبٍ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَعْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ ، وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الشَّاهِدُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ ، فَقَالَ : «أَنكتها ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ : حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِيهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : أَتَيْت مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ » .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَحَبْسِهِنَّ فِيهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ الْجُنَاة ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجُنَاةُ وَخُشِيَ فَوْتهُمْ اُتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا السِّجْنِ ، هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدٌّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ : زَادَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا ، يَعْنِي عُقُوبَةً لَهُمْ حَيْثُ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ . ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } ؛ فَمَنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ ، وَمَنْ كَانَ بِكْرًا جُلِدَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ مُؤْذَنَةٍ بِأُخْرَى هِيَ النِّهَايَةُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ إيذَاءٌ ، وَإِيلَامٌ ، وَمِن النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْجَلْدِ ، وَكُلُّ إيذَاءٍ وَإِيلَامٍ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَزَجْرٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ إبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ رَأَى منْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّهُ نُسِخَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } .
رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ » .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَارْبَدََّ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلُقِيَ لِذَلِكَ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ » .
فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : بِكْرٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ ، وَثَيِّبٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ . الثَّالِثُ بِكْرٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ ، أَوْ ثَيِّبٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ ، لِقَوْلِهِ : «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ » .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادٌ : لَا يُقْضَى بِالنَّفْيِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ تَعْزِيرًا ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
جَوَابٌ ثَانٍ : قَدْ رَدَدْتُم الْبَيِّنَةَ بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَلْدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْمَ ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ . جَوَابٌ رَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْإِحْصَانَ وَلَا الْحُرِّيَّةَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْآيَةِ بَيَانُ جِنْسِ الْحَدِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَرْأَةُ لَا تُغَرَّبُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ تَعَلَّقُوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ ، وَالْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ وَالْقَصْرِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّبَرُّزِ اللَّذَيْنِ يَذْهَبَانِ بِالْعِفَّةِ إلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْعَبْدُ لَا يُغَرَّبُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَيَخُصُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا ، وَلَوْ بِضَفِيرٍ » . فَكَرَّرَ ذِكْرَ الْجَلْدِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَرَّرَهُ أَوْ ذَكَرَهُ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَغْرِيبِ الْحُرِّ إيذَاؤُهُ بِالْحَيْلُولَةِ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ ، وَالْإِهَانَةِ لَهُ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي أَصْلِ التَّغْرِيبِ : وَهُوَ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ أَوَّلُهُمْ ، فَصَارَتْ سُنَّةً لَهُمْ فِيهِ يَدِينُونَ بِهَا ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَنَّ النَّاسُ إذَا أَحْدَثَ أَحَدٌ حَدَثًا غُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ ؛ وَتَمَادَى ذَلِكَ إلَى الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ فِي الزِّنَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَظَالِمَ يُمْكِنُ كَفُّ الظَّالِمِ عَنْهَا جَهْرًا ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِرًّا ، وَالزِّنَا لَيْسَ الْكَفُّ عَنْهُ بِكَامِلٍ حَتَّى يُغَرَّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَلَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي السِّرِّ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْعَوْدَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، وَمُتَعَلَّقُهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عَلِيٍّ ذَلِكَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ .
وَقَوْلُنَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْلِدْهُ ، فَتَرَكَهُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِعْلًا فِي كُلِّ مَنْ رَجَمَ ، وَقَوْلًا فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ : «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا » مُسْقِطٌ لَهُ .