الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ .
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ من مُزَيْنَةَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْرَقِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى .
الرَّابِعُ : نَزَلَتْ فِي سَبْعَةٍ من قَبَائِلَ شَتَّى ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ .
الْخَامِسُ : فِي أَبِي مُوسَى ، وَأَصْحَابِهِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ . وَهُوَ الصَّحِيحُ .
ثَبَتَ أَنَّ ( أَبَا مُوسَى قَالَ : أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ ، فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَلَّا يَحْمِلَنَا ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ أَنْ أَتَى بِنَهْبِ إبِلٍ ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ ، فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا : تَغَفَّلْنَا النَّبِيَّ يَمِينَهُ ، لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّكَ حَلَفْت أَلَّا تَحْمِلَنَا ، وَقَدْ حَمَّلْتَنَا . قَالَ : أَجَلْ ، وَلَكِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى :
إنَّ اللَّهَ لَمَا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوِ الرُّومِ ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْخُرُوجِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَادَرَ الْمُخْلِصُونَ ، وَتَوَقَّفَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُتَثَاقِلُونَ ، وَجَعَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّخَلُّفِ ، وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ بِأَعْذَارٍ مِنْهَا كُفْرٌ ، كَقَوْلِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ : ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ . . . } الآية .
وَقَالَ فِي أَهْلِ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى . . . } إلَى : { مِنْ سَبِيلٍ } . وَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي حَالِهِمْ ، وَكَشَفُوا عَنْ عُذْرِهِمْ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : ( وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : صِنْفٌ مُعَذَّرٌ ، وَهُوَ الْمُقَصِّرُ . وَصِنْفٌ ذُو عُذْرٍ . وَصِنْفٌ لَمْ يَعْتَذِرْ بِعُذْرِهِ ، وَلَا أَظْهَرَ شَيْئًا من أَمْرِهِ ، بَلْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، يُقَالُ : عُذِّرَ الرَّجُلُ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ : إذَا قَصَّرَ ، وَأَعْذَرَ إذَا أَبَانَ عَنْ عُذْرِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَقَدْ قُرِئَ الْمُعْذِرُونَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ ، وَتَخْفِيفِ الذَّالِ ، وَبِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ ؛ لَكِنْ يَكْشِفُ الْمَعْنَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَالِ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ } وَهُمْ الَّذِينَ أَبْدَوْا عَنْ عُذْرٍ صَحِيحٍ ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عُذْرِهِمْ فِيمَا لَمْ يَبْدُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ من حَالِهِمْ .
وَالْعَجَبُ مِنَ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ يَقُولُ : إنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ : وَأَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الضُّعَفَاءِ أَوْ الْمَرْضَى لَمْ يَحْتَاجُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْلِمُهُ بِحَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا فَالْعِيَانُ شَاهِدٌ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ مِثْلَ عَجْزِ الْبَدَنِ وَقِلَّةِ الْمَالِ ، فَاَللَّهُ شَهِيدٌ بِهِ ، وَهُوَ أَعْدَلُ الشَّاهِدِينَ ، يُلْقِي الْيَقِينَ عَلَى رَسُولِهِ بِصِدْقِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِينَ إلَيْهِ ، وَيَخْلُقُ لَهُ الْقَبُولَ فِي قَلْبِهِ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ } ، يُرِيدُ من طَرِيقٍ إلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إحْسَانٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالْحَسَنُ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ الشَّرْعُ ، وَالْقَبِيحُ مَا نَهَى عَنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَاهُنَا وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا عُمُومٌ مُمَهَّدٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، أَصْلٌ فِي رَفْعِ الْعِقَابِ وَالْعِتَابِ عَنْ كُلِّ مُحْسِنٍ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْتَصُّ من قَاطِعِ يَدِهِ فَيُفْضى ذَلِكَ بِالسِّرَايَةِ إلَى إتْلَافِ نَفْسِهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا دِيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي اقْتِصَاصِهِ مِنَ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا صَالَ فَحَلَّ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ لِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا .
وَقَدْ أَوْمَأْنَا إلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .