قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( 23 ) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } :
نزلت هذه الآية معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم على قوله – إذ سأله اليهود عن ذي القرنين وخبر صاحب موسى وعن الروح – غدا أخبركم ، ولم يستثن في ذلك . واحتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف به الكفار ، فنزلت الآية ، وأمر أن لا يقول غدا أخبركم بشيء إلا أن يعلقه بمشيئة الله عز وجل {[9649]} . واللام في قوله : { لشيء } بمنزلة : في ، أو كأنه قال لأجل شيء . وقوله : { إلا أن يشاء الله } في الكلام محذوف تقديره إلا أن يقول إن شاء الله ونحو ذلك . وقال بعضهم إلا أن يشاء الله استثناء من قوله : { ولا تقولن } وهذا قول {[9650]} فاسد بين الفساد {[9651]} فإن قيل : أي معنى للاستثناء ولا يتصور أن يفعل أحد فعلا أن يشاء الله ، فذكر ذلك وترك ذكره سواء ؟ فالجواب أن فائدة الاستثناء رفع ما يوهم اللفظ من الفعل لا محالة وإذا لم يذكر الاستثناء فاللفظ {[9652]} يوهم أنه يفعل لا محالة ولذلك وجب اليمين بهذه الكفارة وسقطت إذا سرح بالاستثناء ، ومن أجل هذا أيضا وجب أن يكون الاستثناء متصلا ، وإن انفصل لن يؤثر . وأما المعتزلة القائلون بأن الإنسان يفعل الشيء وإن لم يشأ الله فلا معنى للاستثناء على قولهم ، إلا أنهم أجابوا عن هذا بأن معنى الاستثناء : إلا أن يشاء الله أن يقطعني عنه باخترام أو موت ، فيخرج بهذا كون المخبر أو الحالف/ قاطعا على الفعل .
وإن وضع الحالف موضع الاستثناء بالمشيئة {[9653]} بما هو في معناها مثل أن يقول إلا أن يريد الله وإلا أن يقضي الله وإلا أن يقدر الله ، فقد اختلف هل يصح به الاستثناء أم لا ؟ فأما ابن القاسم فقال لا يصح لأن الاستثناء بالمشيئة قد كان القياس أن لا يقع لأنه لا يفعل أحد{[9654]} منها إلا بالمشيئة على مذهب أهل السنة . وكذلك الاستثناء بما كان في معناها من تلك الألفاظ المذكورة . لكن الإجماع والسنة أخرجا الاستثناء بالمشيئة من ذلك فقصر الاستثناء عليها وبقي سائر {[9655]} الألفاظ الأخرى على ما يوجبه القياس . وذهب عيسى بن دينار إلى أن الاستثناء بتلك الأشياء نافع كالاستثناء بالمشيئة إذ لا فرق بينهما . وهذا كله إذا حلف الحالف بالله على فعل ما وصرف الاستثناء إلى الفعل ، وإن صرفه إلى اسم الله تعالى لم ينفعه {[9656]} .
قوله تعالى : { واذكر ربك إذا نسيت } اختلف فيه ، فقال ابن عباس والحسن معناه استثن ولو بعد مدة إذا نسيت الاستثناء {[9657]} وقيل معناه إذا غضبت {[9658]} . وقيل معناه إذا تركت ذكر ربك . وإذا قلنا إن المراد بالآية الاستثناء فهل ذلك في اليمين أم في غير اليمين ؟ اختلف في ذلك ، إلا أن ظاهر قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء } الآية . أن {[9659]} المراد في غير اليمين {[9660]} وإلى أن ذلك في اليمين ذهب قوم ، وكلا القولين قد تؤول على ابن عباس . وقد اختلف في الوقت الذي ينتفع فيه بالاستثناء على عشرة أقوال . فذهب مالك وغيره إلى أنه لا ينفع إلا أن يكون متصلا باليمين . وقال عطاء : له أن يستثني في قدر حلب الناقة الغزيرة . وقال الحسن وطاووس {[9661]} : له أن يستثني ما لم يقم من مجلسه {[9662]} . وقال قتادة : له ذلك ما لم يقم أو يتكلم . وقال ابن حنبل : له ذلك ما دام في الأمر . وقال إسحاق مثله إلا أن يكون ثم سكوت ثم يعود إلى الأمر . وقال ابن جبير له ذلك بعد أربعة أشهر . وقال مجاهد : له ذلك بعد سنتين . قال ابن عباس : يصح له الاستثناء . فقيل أراد سنة ، وقيل أراد أبدا ، وقال أبو العالية{[9663]} له ذلك أبدا ، وروي مثله نصا عن ابن عباس . واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : { واذكر ربك إذا نسيت } وبما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " والله لأغزون قريشا " ثم سكت ، ثم قال : " إن شاء الله " {[9664]} . والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى ، وقد أبطل الناس سائر الأقوال وأبطلوا حججها بما يضيف هذا الكتاب عن بسطه ، فمن أراده طلبه في مظانه قال الطبري : وأعلم أحدا ممن يقول ينفع الاستثناء بعد مدة ، يقول بسقوط الكفارة قال : ويرد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأتي الذي هو خير " {[9665]} فلو كان الاستثناء على ذلك أن يدخل به الحالف في رتبة المستثنين بعد مدة حلفه خاصة {[9666]} .
وذهب جماعة إلى أن مذهب ابن عباس سقوط الكفارة وألزموا كل من يقول بجواز الاستثناء بعد مدة القول بإسقاط الكفارة ، والقول بإسقاط الكفارة أصح على قول من يقول في جواز الاستثناء بعد مدة لظاهر الآية إذا حملت على ذلك . والاستثناء في المشهور إنما هو عامل في اليمين بالله تعالى . واختلف في اليمين بغير الله من طلاق أو عتاق أو مشي إلى مكة ونحو ذلك هل ينفع فيه الاستثناء أم لا ؟ ففي المذهب أنه لا ينفع ، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما إلى أنه ينفع .
هذه الآية تتضمن الرد على المنجمين والمتكهنين والطبعيين وغيرهم ممن يخوض في هذه الأشياء .