73- قوله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها } |البقرة : 73| .
فقيل : إنهم ضربوه ، وقيل : ضربوا قبره ، لأن ابن عباس حكى أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر ، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة . واختلف فيما ضرب به منها ؟ فقيل باللحمة التي بين الكتفين ، وقيل بالفخذ ، وقيل باللسان ، وقيل بالذنب ، وقيل بعظم منها{[207]} . وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان ، وقد استدل مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية على إعمال قول المقتول : دمي عند فلان ، ولم يختلف قوله إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقود . واختلف قوله في قبول دعواه في قتل الخطأ ، وتابعه في دعوى العمد جميع أصحابه والليث بن سعد ، وخالفه جمهور أهل العلم ، واستدلوا لمذهبهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعطى الناس بدعواهم " {[208]} الخبر ، وبالقياس على دعوى المال وبقول النبي صلى الله عليه وسلم : " البينة على المدعي{[209]} واليمين على من أنكر " {[210]} وهذا كله مردود لأن المدعي هاهنا لم يعط بدعواه وهو ولي المقتول وإنما أعطي بما انضاف{[211]} إلى دعواه من قول المقتول ، والأصل في جميع الأحكام أن يبدأ باليمين من يغلب على الظن صدقه ، كان مدعيا أو مدعى عليه . فلما غلب صدق أولياء المقتول في دعواهم بسبب يدل على ذلك مثل تدمية المقتول ، أو مثل السبب الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة من العداوة بين المسلمين واليهود ونحو ذلك{[212]} ، وجب أنه يقبل قوله وهذا السبب هو الذي يعبر عنه أصحاب مالك باللوث ، فالمدعي هو من قوي سببه ، والمدعى عليه هو من ضعف سببه ، فليس بين أمر التدمية وبين حديث المدعي والمدعى عليه اختلاف .
وقول من قال : إن الحكم بالقسامة خلاف الأصول غير صحيح . ودليل صحة عمل التدمية وكونها جارية على هذا الأصل ما جاء في الآية المذكورة من إخبار القتيل وقوله : قتلني فلان . وقد قال جماعة منهم الفقيه أبو عمر بن عبد البر وغيره : إن الاحتجاج بهذه الآية غفلة شديدة وشعوذة لأن إحياء ذلك القتيل كان آية لنبي لا سبيل إليها اليوم ، ولم يقسم على قتيل بني إسرائيل ، وإنما علم صدق قوله بالآية{[213]} . وهذا غير صحيح بل الدليل منها قائم وذلك أن الآية إنما كانت في الإحياء . وأما قوله بعد أن حيي قتلني فلان فليس فيه آية ، وقد كان الله تعالى قادرا على أن يحيي غيره من الأموات ، فيقول ذلك فتكون فيه آيتان آية في إحيائه ، وآية في إخباره بالغيب ، فلما خصه الله تعالى بالإحياء بين سائر الأموات ، دل ذلك على أن الشرع كان عندهم : أن من قتل فأدرك حيا فأخبر بقاتله صدق قوله{[214]} ، فلما فات بالموت ولم تدرك حياته أحياه الله تعالى لنبيه ليستدرك ذلك . وأما القسامة فإنها وإن كانت لم ترد في قصة القتيل المذكور في الآية فإنها وردت في الحديث المشهور فرأى مالك-رضي الله عنه- أن يجمع بين الحديث والآية فيصدق بمقتضى الآية ، وتكون القسامة بمقتضى الحديث لأن التدمية لوث ، لا فرق بينه وبين اللوث الذي وقعت القسامة فيه{[215]} في الحديث . فان قيل : القسامة حكم زائد على ما جاء في الآية والزيادة نسخ قلنا : هذا الأصل مختلف فيه ، والمختار في هذه ألا يكون نسخا لأنه لم يغير حكم المزيد عليه مثل زيادة التغريب على الجلد في البكر الزاني . وفي " المبسوطة " عن يحيى من أصحاب مالك أنه قال : لا أقول بالتدمية ولا أراها نحو قول الجمهور ، وكذلك يجيء عن أبي بكر اللؤلؤي أنه رجع عن القول بالتدمية فكان لا يفتي بها . وهذا الاستدلال بهذه الآية إنما يصح على القول بأن شريعة من قبلنا لازمة لنا{[216]} ، وقد روي أن القسامة كانت في الجاهلية{[217]} ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، ليتناهى الناس عن القتل ، وقد قال عبيدة السلماني : من حينئذ لم يرث قاتل . يريد من وقت موسى-عليه السلام- بسبب ذلك القتل المذكور في الآية .
وقال مكي{[218]} : إن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا لأن لا يرث قاتل ، ثم ثبت ذلك في الإسلام ، كما ثبت كثير من نوازل الجاهلية .