قوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . . . . } إلى قوله تعالى : { واجتنبوا قول الزور } :
قوله : { فكلوا منها } : أمر إباحة بالأكل من الهدايا . وقد اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدي الواجد مما لا يؤكل . فذهب مالك إلى أنه يؤكل منها كلها إذا بلغت محلها إلا من ثلاثة أنواع : جزاء الصيد ونسك الأذى ونذر المساكين {[9793]} . وذهب أحمد وغيره إلى أنه يؤكل منها إذا بلغت محلها {[9794]} إلا من جزاء الصيد والنذر ، وروي عن الحسن مثله . وذهب الحسن أيضا في رواية عنه إلى أنه يؤكل من جزاء الصيد ونذر المساكين .
وروي عن الشافعي أنه لا يؤكل من الواجب شيء . وقال أبو حنيفة : يؤكل من هدي القران والتمتع ولا يؤكل سوى ذلك {[9795]} واحتج ابن القصار لمالك : بقوله تعالى : { فكلوا منها } ولم يخص واجبا من واجب ولا تطوع ، فهو عام في جواز الأكل إلا ما قام الدليل عليه من الثلاثة الأشياء المذكورة لأنها وجبت للمساكين فلا يجوز له الرجوع ولا الأكل منها كالكفارات . واختلفوا في هدي التطوع ، فعند أصحاب مالك أنه إن لم يبلغ محله لم يؤكل وإن بلغ أكل . وذهب جابر بن زيد إلى أنه لا يؤكل وإن بلغ محله ، وإن أكل غرم . وذهب قوم إلى جواز أكله وإن عطب قبل محله ، وقاله ابن عمر وعائشة . ومن حجة من يجيز الأكل عموما عموم الآية ، وما عطب من هدي واجب قبل بلوغ محله جاز أكله لأن عليه بدله فلا فائدة في منعه أكله . وقد اختلف الناس في الأكل من الأضاحي ومما {[9796]} يجوز أكله من الهدايا . فاستحب قوم الأكل منها ، وهو قول مالك والليث وغيرهما ، وخير قوم من غير استحباب ، منهم عطاء ومجاهد . وذهب قوم إلى أن من لم يأكل فقد عصى ويأتي على هذا أن الأكل منها واجب . وكان من تأول هذا يحمل أمره تعالى بالأكل على الإيجاب ومن استحب ذلك حمله على الندب ومن خير فيه رآه على الإباحة . ويؤيده أنه قد روي أن المشركين كانوا يأكلون ضحاياهم فرخص للمسلمين في ذلك . فإذا قلنا إنه يستحب له الأكل من أضحيته فماذا يأكل منها ؟ فوسع الجمهور أن يأكل ما شاء ومما شاء من أضحيته من غير تفصيل . وذهب قوم إلى استحباب الأكل من الكبد . قال الزهري : من السنة أن يأكل أولا من الكبد {[9797]} وروي عن علي أنه ذبح أضحيته فشوى كبدها وتصدق بسائرها ثم أخذ رغيفا بيده والكبد بيده الأخرى فأكل . وقال قوم يستحب أن يأكل من أضحيته الثلث هو وأهل بيته {[9798]} . والقول الأول أظهر لعموم الآية .
– قوله تعالى : { وأطعموا البائس الفقير } :
أمر بأن يطعم منها المساكين . وقد اختلف في التصدق منها ، فرأى قوم أن من لم يفعل ذلك فقد عصى ، ويأتي على هذا أن التصديق منها واجب . وذهب قوم إلى أن التصديق منها مستحب ، وكأن من ذهب إلى القول الأول حمل قوله تعالى : { وأطعموا البائس الفقير } أمرا على الإيجاب ، ومن ذهب إلى القول الثاني حمله على الندب . وما الذي يستحب الصدقة منها ؟ ذهب الأكثر إلى استحباب من غير تحديد . وذهب ابن مسعود وابن عمر وغيرهما إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويأكل الثلث ويطعم جيرانه الثلث . واستحب قوم الصدقة بالأكثر {[9799]} . والقول الأول أظهر لعدم التحديد في شيء من الآية . قال أبو الحسن : قوله : { فكلوا منها وأطعموا } يدل على أنه لا يجوز أكل الجميع ولا التصدق بالجميع {[9800]} . وقد اختلف العلماء في الأكل من الهدايا والأضاحي بعد ثلاث . فحرمه قوم واحتجوا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث {[9801]} . قال بعضهم وإليه ذهب ابن عمر وعلي . وذهب الجمهور إلى إجازة أكلها وادخارها . واحتج بعضهم بأن أحاديث النهي في ذلك منسوخة بأحاديث الإباحة . وقال بعضهم ليس في الأحاديث في ذلك ناسخ ولا منسوخ وأن ذلك مفسر في الحديث لأنه قال : " إنما نهيتكم من أجل الدافة " {[9802]} وكان نظرا منه عليه الصلاة والسلام لمعنى ، فإذا زال المعنى سقط الحكم ، ومتى رأى ذلك الإمام نظرا عهد {[9803]} بمثل ما عهد به النبي صلى الله عليه وسلم توسعة على المحتاجين {[9804]}وقال بعضهم قوله تعالى : { فكلوا منها } ناسخ لفعلهم من ترك الادخار {[9805]} واختلف في العقيقة ، فذهب الحسن البصري وأهل الظاهر إلى أنها واجبة وتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام : " على الغلام عقيقة " {[9806]} وذهب قوم إلى أنها سنة ندب إليها وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما {[9807]} وعليه يتأولون أحاديث العقائق كلها . وذهب قوم إلى أنها مباحة ، وذهب قوم إلى أنها بدعة لا تجوز وينسب إلى أبي حنيفة ، وأصحابه ينكرونه {[9808]} . ومن الناس من رأى هذه الآية – وهي آية الأضحى- . ناسخة للعقيقة وهو قول محمد بن الحسن {[9809]} . وقال بعضهم ذبح الضحايا ناسخ لكل ذبح {[9810]} وقال بعضهم كانت ذبائح الإسلام أربعة : أضحية وهدي وعقيقة ورجبية – وهي ذبيحة كانت تذبح في رجب – وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة " وقال جماعة أهل العلم هي منسوخةبقوله صلى الله عليه وسلم : " لا فرع ولا عتيرة . أتدرون ما العتيرة ؟ هي الرجبية " {[9811]} وأجمعت طائفة على نفيها .