ثم استثنى تعالى فقال : { إلا الذين تابوا } فاستثنى من تاب وأصلح من بعد القذف ووعدهم بالرحمة والغفران . فالاستثناء غير عامل في جلده القذف بإجماع . وعامل في فسقه بإجماع . واختلف في عمله في رد الشهادة فقال أبو حنيفة وغيره {[41]} لا يعمل الاستثناء في رد الشهادة وإنما يزول فسقه عند الله تعالى ولا تقبل شهادته ولو تاب على حال من الأحوال فرد الاستثناء إلى أقرب مذكور في الآية ، وهو مذهب جماعة من الأصوليين . وقال جمهور الناس الاستثناء عامل في رد الشهادة فإن تاب القاذف قبلت شهادته ، فرد الاستثناء إلى الجملتين ، وهو مذهب جماعة من الأصوليين أيضا . وقد سمى بعضهم هذا الاستثناء نسخا {[42]} وليس نسخا باتفاق .
واختلفوا في صفة توبة القاذف التي ذكر الله تعالى ، فقيل لا تكون إلا بأن يكذب نفسه بالقذف الذي حد فيه ، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما ، وأبى أبو بكرة نفيع من إكذاب نفسه فرد عمر شهادته حتى مات ، وهو قول الشعبي وغيره . وقيل توبته صلاح حاله وندمه على ما فرط منه وإن لم يكذب نفسه ، وهو قول مالك . وهذا القول أصح لأن أصل التوبة الإنابة والرجوع من حال المعصية إلى حال الطاعة ومن ندم على ما فرط ، وصلحت حاله ، فهو رجوع منه . وقد قال تعالى : { إلا من تاب } ولم يخصص رجوعا من رجوع . واختلف على القول بإجازة شهادته في أي شيء تجوز ؟ {[43]} فالمشهور عن مالك أنها تجوز في كل شيء بإطلاق ، وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء . وقال سحنون من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته فيه . وقال مطرف وابن الماجشون من حد في قذف أو زنا فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنا ولا في قذف ولا في لعان وإن كان عدلا ، وروي هذا عن مالك . والقول الأول أصح لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } الآية فعم ولم يخص قبول شهادتهم في شيء دون شيء . واختلف متى تسقط شهادة القاذف ؟ فقيل بنفس القذف ، وهو قول ابن الماجشون وأصبغ ، وبه يقول الشافعي . وقيل لا تسقط حتى يقام عليه الحد وهو قول مالك وأكثر أصحابه وبه يقول أبو حنيفة {[44]} وهذا هو الصحيح لأن الله تعالى إنما نهى عن قبول شهادتهم إذا لم يأتوا بأربعة شهداء ، وللقاذف الإتيان بالشهداء ما لم يحد ، فهذا نفي أن شهادته لا تسقط إلا بإقامة الحد عليه ، وما لم يقع عليه الحد فلم يتبين فسقه لاحتمال أن يأتي بالشهداء أو يعفو عنه المقذوف أو يقوله بما رماه به من الزنا . واحتج بذلك إسماعيل القاضي بترتيب ترك قبول الشهادة بعد الجلد . وفيه نظر .