قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء . . . } إلى قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } :
نزلت في القذف والرمي أصله من الرمي بالحجارة والسهام ثم استعير للقذف لما بينهما من الشبهة . وقد قال امرؤ القيس{[9944]} : وجرح اللسان كجرح اليد . فكأنه تعالى قال والذين يقذفون المحصنات . والقذف أيضا الرمي . قال تعالى : { ويقذفون من كل جانب ( 8 ) دحورا } [ الصافات : 8 ، 9 ] وتقول العرب : فلان بين حاذف وقاذف . إلا أنه قد خص في إطلاق أهل الشرع بالرمي في الزنا ولا خلاف في صريح ذلك أنه داخل في حكم الآية . واختلف في التعريض بالزنا هل يجري مجرى الصريح في ذلك أم لا ؟ فمالك يوجب الحد والشافعي وكافة العلماء على خلافه . ووجه قول مالك حمل المفهوم على الصريح كحمله عليه في ألفاظ الشرع ، وقال الشافعي لما كان التعريض في الخطبة ليس كالصريح حملنا التعريض بالقذف عليه وهو أولى لقوله عليه الصلاة والسلام : " ادرأوا الحدود بالشبهات " {[9945]} والمحصنات هنا أهل العفة باتفاق {[9946]} واختلف في الحرية والإسلام هل هما داخلان تحت لفظ المحصنات مع العفة {[9947]} أم لا على ما يأتي تفسيره . واتفقوا أن التزويج لا مدخل له في هذه الآية . واختلف في سبب نزول هذه الآية . فقال سعيد بن جبير سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها . وقيل بل نزلت بسبب ما قيل في القذف عاما لا في تلك النازلة {[9948]} واختلف أيضا في الآية هل هي في النساء خاصة – والرجال داخلون فيها بالمعنى – أم هي في الرجال والنساء سواء ؟ فقيل هي في النساء لقوله : { المحصنات } وهذا لا يكون إلا في النساء ، وخصهم تعالى بالذكر إذ كان رميهم بالفاحشة أنكر في النفس وأشنع ، وقذف الرجل داخل في حكم الآية بالمعنى والإجماع ، وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير ودخل شحمه ودماؤه وغضاريفه ونحو ذلك من أعضائه في ذلك المعنى وبالإجماع ، ومثل قوله تعالى في الإماء : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] والعبيد مثلهن باتفاق . ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : " من أعتق شركا له في العبد " {[9949]} والأمة مثله باتفاق . وقد اختلف هل يسمى مثل هذا قياسا أم لا ؟ وقيل بل الآية في الرجال والنساء وأن المعنى فيها : والذين يرمون الأنفس {[9950]} المحصنات ، فهي تعم بلفظها النساء والرجال . وقوله تعالى : { والذين يرمون } عام في كل بالغ عاقل {[9951]} مسلم أو نصراني . إلا أنه اختلف في العبد هل هو مخصص من هذا اللفظ أم لا . فذهب ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز ومن قال بقولهما إلى أنه غير مخصص من لفظ الآية وأن حده في القذف ثمانون جلدة كما نص في الآية ، وبه قال الأوزاعي . وذهب الجمهور إلى أنه مخصص منها بقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات } [ النساء : 25 ] وأن حده نصف حد الحر أربعون {[9952]} .
وقوله تعالى : { المحصنات } أراد باللفظ أهل العفة وقد اتفقوا على أن من قذف – من ثبت عليه الزنا – بالزنا الذي قد ثبت أنه لا حد عليه لأن العفة من ذلك لم تقع بوجه . واختلفوا إذا قذفه بزنا آخر غير الذي ثبت عليه . فالمشهور أنه لا حد على القذف ، وقيل يحد لأن سقوط العفة في ذلك لم تعلم ، وإلى نحو هذا ذهب أبو ثور . والقول الأول أصح لأن العفة بظاهر هذا الزنا الثابت قد سقطت ولا حد على من قذف غير عفيف بقوله تعالى : { المحصنات } . فعلى المشهور يكون لفظ المحصنات في الآية فيمن لم تعرف {[9953]} له غير العفة أبدا . وعلى القول الثاني يكون اللفظ في ذلك وفيمن لم تعرف صحة ما روي به وإن لم يعلم متصل العفة . وظاهر الآية العفاف في المسلمين والكافرين وأنه من قذف أهل الكفر فعليه الحد . وقد قيل بذلك على ما ذكرت {[9954]} بعض المتأخرين . وقد قال بذلك الظاهر قوم منهم ابن المسيب ، ورأيت له في الذي يقذف النصرانية ولا ولد مسلم أنه يحد . ورأيت لغيره في النصرانية تحت المسلم أنه إذا قذفها جلد الحد {[9955]} . والذي عليه الجمهور أن المراد بالآية المقذوفون من المسلمين {[9956]} وأن الكفار مخصوصون من عمومها بالقياس على الفاسق الملئ {[9957]} وهذا إذا جعلنا الإحصان في الآية العفة خاصة . وأما إن جعلنا العفة والإسلام فليس للآية عموم يحتج به في ذلك . وظاهر الآية أيضا العموم في الأحرار والعبيد وأنه من قذف منهم أحدا كان عليه الحد . وقد قال بذلك بعض أهل الظاهر داود ومن تابعه {[9958]} . والذي عليه الأكثر أن المراد بالآية الأحرار دون العبيد وأنه لا حد على من قذف مملوكا وأنهم مخصوصون من ذلك العموم ، قال بعضهم لقوله " أخر حد المماليك وأهل الذمة إلى يوم القيامة " {[9959]} . ومعناه الحدود التي لهم {[9960]} وهذا كما قلنا على القول بأن الإحصان في الآية العفة خاصة أو العفة والإسلام خاصة . وأما إن فسر اللفظ بذلك وبالحرية جميعا فلا عموم له يحتج به . وظاهر الآية أيضا العموم في البالغين وغيرهم وأنه من قذف منهم أحدا فعليه الحد ، وقد قيل ذلك على ما حكاه بعض المتأخرين . ورأيت لإسحاق أن الغلام إذا كان يطأ مثله حد قاذفه {[9961]} والذي عليه الجمهور أن المراد بالآية البالغون وأن الذين لم يبلغوا مخصوصون من عموم الآية بقوله عليه الصلاة والسلام : " رفع القلم عن ثلاثة " {[9962]} فذكر الصبي حتى يحتلم . إلا أنه اختلف في المذهب في بلوغ النساء ما هو ، فالمشهور أنه إمكان الوطء ، وقال ابن عبد الحكم وابن الجهم {[9963]} الحيض ، وهذا القول أجرى مع الظاهر . وظاهر الآية العموم في الأحمق وغيره وأنه من قذف الأحمق عليه الحد وقد قال بذلك {[9964]} بعض المتأخرين . والذي عليه الجمهور أن المراد بالآية العقلاء وأن ما عداهم فلا حد على قاذفهم إذا قذفهم بما يكون في حال زوال عقولهم وأنهم مخصوصون من عموم الآية بقوله عليه الصلاة والسلام : " رفع القلم عن ثلاث " فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق ، وظاهر الآية أيضا العموم في الممكن من الوطء وغير الممكن مثل المجبوب ومن جرى مجراه ، وأن من قذف مجبوبا فعليه الحد وقد قال بذلك ابن حنبل وإسحاق والبتي . والذي عليه الأكثر أن المراد بالآية المتمكنون من الوطء وأنهم مخصوصون من عموم الآية بالقياس على الصبي وأنه من قذف مجبوبا لا حد عليه {[9965]} . واختلف فيمن أقر على نفسه بالزنا ثم رجع بعد ذلك هل يحد للقذف أم لا ؟ والمشهور أنه لا حد عليه لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون المحصنات } وهذا لم يرم أحدا . واختلف في المرمي به الذي يجب فيه {[9966]} حد القذف ما هو ، فعند مالك والشافعي أنه الزنا واللواط ، وعند أبي حنيفة الزنا خاصة وهذا بناء منه على أصله في أن اللواط لا يجب به الحد وإنما يجب به التعزير{[9967]} وحجة القول الأول قوله تعالى : { والذين يرمون } ، والزنا يراد به القذف . ومن يرمي باللواط فقد قذف ، ولفظ الآية تعمه . واختلف فيمن قذف أحدا ببهيمة ، فقال ابن شهاب عليه الحد ، والمشهور أنه لا حد فيه لأن الآية على ما فهم منها إنما جاءت في الآدميين لا في البهائم {[9968]} . واختلف فيمن قذف ابنه أو ابن ابنه هل عليه حد أم لا على قولين في المذهب . قال ابن المنذر : وظاهر الآية يدل على الحد وليس مع من أزال الحد في هذا حجة . واختلف فيمن قال لآخر يا فاعلا بأمه أو فعلت بأمك ، فالمشهور أن عليه الحد ، وقال أصحاب الرأي لا حد عليه في الوجهين . وحجة الأول ظاهر الآية وأن هذا قاذف بلا خلاف . واختلف في القوم في دار الحرب يقذف بعضهم بعضا ، فالمشهور أن على القاذف منهم الحد وقال أصحاب الرأي لا يحد . قال ابن المنذر يحد على ظاهر الآية . واختلف فيمن قذف رجلا بالزنا فحد له ثم عاد له فقذفه هل يحد له أيضا على قولين في المذهب . ووجه القول بالحد عموم الآية {[9969]} واختلف فيمن قذف جماعة هل يحد لكل واحد منهم حدا أم حدا واحدا لجميعهم . فذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله ومن تابعهما إلى أنه يحد {[9970]} حدا واحدا قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين في مجالس شتى . وقال الشافعي لكل واحد حد ، وقال عطاء وغيره إن كان القاذف بكلمة واحدة فحد واحد ، وإن كان قذف هذا ثم هذا كان لكل واحد منهم حد . وذكره بعضهم عن مالك رحمه الله تعالى . وقال عروة بن الزبير وغيره إن جاؤوا جميعا حدوا حدا واحدا وإن جاؤوا مفترقين حد لكل واحد منهم ، وهو قول المغيرة فيمن قذف أناسا في أوقات شتى {[9971]} واستدل بعضهم من الآية على تصحيح القول الأول بأن قال قاذف المحصنة قاذف لها وللذي زنا بها ولم يوجب الله تعالى عليه إلا حدا واحدا مع قوله أيضا : { والذين يرمون المحصنات } وهي جماعة . واختلف في القذف هل يتعلق به حق الله تعالى أم لا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يتعلق به فلا يجوز فيه العفو بلغ الإمام أو لم يبلغه وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه تدل رواية أشهب عن مالك . ويأتي على هذا أن حد القذف يقيمه {[9972]} الإمام إذا انتهى إليه ، رفعه إليه صاحبه أو أجنبي . والثاني : أنه لا يتعلق به حق الله ولصاحبه أن يعفو بلغ الإمام أو لم يبلغه {[9973]} وهو أحد قولي مالك وقول الشافعي . والثالث : أنه حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام فإذا بلغ الإمام صار حقا لله تعالى ، وهو أحد قولي مالك {[9974]} . وحجة القول بأن لله تعالى فيه حقا أنهم قد اتفقوا على أن الزنا من حقوق الله لا يجوز فيه العفو فقسنا عليه القذف لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون المحصنات } وقال : { الزانية والزاني } فوجب إجراء الأمرين على الظاهر لأنه لم يشترط العفو . وفي هذا حجة أخرى أن المخاطبة بالجلد إنما هي للولاة فذلك يدل على أن لله تعالى فيه حقا ولا يجوز فيه العفو .
قوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } :
شدد الله تعالى بها على القاذف سترا على عباده وزجرا عن أذاهم . وحكم هذه الشهادة التي ذكرها الله تعالى هي أن تكون على معاملة بالغة كالورود في المكحلة . واختلف هل يراع فيها أن تكون في موطن واحد أم لا ؟ فراعاه الأكثر ولم يراعه ابن الماجشون وأبو حنيفة ومن حجتهما ظاهر الآية إذا لم يفرق بين موطن واحد ومواطن ، وحجة القول الأول قياس المواطن على الأزمنة إذ لم يختلفوا فيها . واختلف هل من شرطها أن يأتي الشهداء مجتمعين أم لا ؟ فرأى ذلك مالك وقال عبد الملك تقبل شهادتهم مجتمعين أو مفترقين ، ومن حجة هذا القول ظاهر الآية إذ لم يذكر الله تعالى في الشهداء اجتماعا ولا افتراقا {[9975]} . واختلف إن شهد للقاذف أقل من أربعة هل يحد الشهود أم لا ؟ فعند مالك والشافعي وغيرهما أنهم يحدون هم وهو . وقال أبو حنيفة وابن حنبل وغيرهما الشهود ليسوا بقذفة فلا يجلدون ومن حجة هؤلاء أن يقولوا مفهوم الآية أنه إن شهد أقل من أربعة لم تجز شهادتهم على المقذوف ولم يبرأ القاذف ويجلد ، فمقتضى هذا أن الشهود لا يجلدون . وحجة القول الأول أنهم قد صاروا قذفة إذ لم تكمل بهم الشهادة . واختلف أيضا إذا شهد أربعة بالزنا أحدهم زوجها . ففي المذهب أن الزوج يلاعن ويحد الشهود وهو أحد قولي الشافعي ، وقال أيضا أنهم لا يجلدون ، وقال أبو حنيفة تقبل شهادتهم وتحد المرأة {[9976]} وهذا إذا جاء مع الشهود مجيء الشهادة من غير أن يتقدم منه إليها قذف . والدليل على المخالف للمذهب قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } الآية . وظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سواه . وكذلك الخلاف إذا شهد أربعة فساق {[9977]} فردت شهادتهم . فقال أبو حنيفة وغيره لا يحدون ، والجمهور على أنهم يحدون ، قال أبو الحسن : وظن أصحاب أبي حنيفة أيضا أنه إذا أتى بأربعة شهداء على الصفة المذكورة أنه لا يحد ، بخلاف ما إذا أتى بأربعة شهداء محدودين أو كفارا وعبيدا فلا يسقط الحد عنه . قال وهذا التفصيل تحكم مع أن إطلاق لفظ الشهداء يقتضي الذي يحصل بهم الصدق ويقبل قولهم {[9978]} . واختلف أيضا إذا شهد ثلاثة وشك الرابع هل يحد من شهد أم لا ؟ كالخلاف فيما تقدم ومما يعضد القول في حد الشهود مع القاذف في جميع ما ذكرناه ما فعل عمر بن الخطاب في أمر المغيرة بن شعبة {[9979]} وذلك أنه شهد عليه بالزنا أبو بكرة نفيع بن الحارث {[9980]} وأخوه نافع {[9981]} وسماه بعضهم عبد الله وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي {[9982]} . فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد{[9983]} ولم يؤدها كاملة فجلد عمر الثلاثة المذكورين .
وقوله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } المعنى فاجلدوا كل واحد منهم . وقد تقدم في الجلد وهيئته بما أغنى عن إعادته . وقوله : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } أمر تعالى أن لا تقبل للقاذفين شهادة ، وهذا اللفظ يقتضي مدة حياتهم .
وقوله تعالى : { وأولئك هم الفاسقون } حكم تعالى بأنهم فاسقون أي خارجون عن طاعة الله تعالى . فهذه ثلاثة أحكام في القاذف : الجلد ورد الشهادة والتفسيق .