– قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل . . . } إلى قوله تعالى : { رقيبا } :
اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ الذين ذهبوا إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها . فقال أبي بن كعب وغيره {[10360]} : معناها لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سميت . وهذا على قول من جعل الآية في الأصناف المذكورة غير مطلقة في جميع النساء . وقال مجاهد وأبو أمامة بن سهل {[10361]} وأبو رزين وابن جبير : لا يحل له اليهوديات ولا النصرانيات من بعد المسلمات المذكورات . وكذلك قدروا : { ولا أن تبدل بهن } أي ولا أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات {[10362]} . قال أمامة لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين {[10363]} وفي هذا القول بعد لأنه لم يجز للمسلمات ذكر فيضمرن . وقال الحسن وابن سيرين وغيرهما {[10364]} إن هذه الآية حظرت عليه صلى الله عليه وسلم النساء إلا التسع اللواتي كن عنده فكأن الآية ليست بمتصلة بما قبلها . قال ابن عباس وقتادة : لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه شهرا وآلى منهن ثم خرج {[10365]} وخيرهن اخترن الله ورسوله جازاهن بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن ونسخ بذلك ما أباحه الله تعالى له قبل من التوسعة في جميع النساء . فعلى هذا القول تكون هذه الآية ناسخة للآية المتقدمة على القول بأنها مبيحة للنبي صلى الله عليه وسلم جميع النساء . فقد كان له صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من شاء . وقد تزوج سليمان عليه السلام – فيما يذكر عنه – سبعمائة امرأة حرة وكانت له ثلاثمائة أمة مملوكة . ؟ وكان لداود عليه السلام مائة حرة . وقد روي أن اليهود قالت : ما لمحمد شغل إلا التزوج . فحسدوه على ذلك فأنزل الله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله . . . . } إلى قوله : { وآتيناهم ملكا عظيما } [ النساء : 54 ] فروي {[10366]} أن معنى { ملكا عظيما } ما كان لسليمان وداود من النساء . وقيل لما قال : { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } الآية [ الأحزاب : 38 ] كان له أن يتزوج من شاء بغير عدد كما كان للأنبياء قبله ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، قاله محمد بن كعب {[10367]} .
وقال أبي بن كعب والضحاك المعنى : لا تحل لك العمات والخالات ونحوهن وأمر مع ذلك أن لا يتبدل بأزواجه التسع ومنع أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن . وقيل من تزوجت حصلت في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته . قال ابن زيد هذا الشيء كانت العرب تفعله . وقد أنكر الطبري وغيره {[10368]} هذا المعنى في الآية . والعرب لم يعرف لها أنها كانت تفعل ذلك . وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء ؟ فقال هذه عائشة فقال عيينة يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا {[10369]} فليس بتبديل ولا أرى ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية . فالآية على القول بأن مقتضاها القصر على من عنده من النساء ، قيل إنها محكمة لم ينسخها شيء ، إلا أنه يختلف هل هي ناسخة لما كان قبلها من إباحة جميع النساء أم لا ؟ وقيل إنها منسوخة . والذين ذهبوا إلى أنها منسوخة اختلفوا في الذي نسخها . فقيل نسختها السنة ، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له جميع النساء {[10370]} . وهذا القول ضعيف لأن الحديث لو كان صحيحا لما صح النسخ به لأنه خبر آحاد وخبر الآحاد لا ينسخ به القرآن . وقيل هي منسوخة بالقرآن ، واختلفوا في الناسخ فقيل قوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن وتئوي إليك من تشاء } وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك . وجائز أن ينسخ الشيء ما بعده لأن القرآن بمنزلة سورة واحدة . على أنه قد روي عن ابن عباس أنه نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان وقد أجمع على أن قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } [ البقرة : 240 ] منسوخ بما قبله وهو : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 230 ] منسوخ بما قبله وهو : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 234 ] فهذا مثله . وقد مر الكلام على هذا . وقيل نسخها قوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن } على القول بأنها مبيحة جميع النساء {[10371]} ومما يدل على {[10372]} النسخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بعد نزول النهي بقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } ميمونة ، ومليكة بنت كعب وصفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث {[10373]} .
وقوله تعالى : { ولو أعجبك حسنهن } :
قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس {[10374]} أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب {[10375]} . وفي هذا اللفظ {[10376]} { ولو أعجبك حسنهن } دليل على جواز النظر من الرجل إلى المرأة التي يريد زواجها ، وهي مسألة مختلف فيها . فقيل يجوز من غير اغتفال لها . وقيل يجوز اغتفلها النظر أو لم يغتفلها . وإلى مثل هذا ذهب الشافعي فقال يجوز بأمرها وبغير أمرها . والقولان قائمان من المذهب . ومعنى ذلك عندنا أن ينظر إلى وجهها وكفيها خاصة . قال أبو حنيفة : وإلى القدمين . قال داود إلى جميع البدن سوى السوءتين . وقيل لا يجوز شيء من ذلك اغتفلها أو لم يغتفلها . هذه ثلاثة أقوال في جواز النظر . وعلى القول بالجواز ثلاثة أقوال فيما يجوز أن ينظر إليهن . / والحجة للجواز دليل الآية المتقدم وما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم أري عائشة في منامه قبل أن يتزوجها في خرقة حرير {[10377]} وتصعيده النظر صلى الله عليه وسلم وتصويبه {[10378]}في المرأة التي وهبته نفسها وما ذكر {[10379]} من أن المغيرة بن شعبة أراد زواج امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " {[10380]} . وقال عليه الصلاة والسلام لآخر : " وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا " {[10381]} . قال الحميدي {[10382]} يعني صفراء وقال سهل بن أبي حثمة {[10383]} رأيت محمد بن مسلمة يطارد تبيتة بنت الضحاك{[10384]}على إجار من أجاجير المدينة . فقلت له أتفعل هذا ؟ فقال نعم ، قال النبي صلى الله عليه سلم : " إذا ألقى الله تعالى في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها " {[10385]} ومن حجة من منع قوله عليه الصلاة والسلام : " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى " {[10386]} . وجمع أهل القول الأول بين الأحاديث ، وقد تقدمت هذه المسألة قبل هذا .