11 قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية :
اختلف في سبب هذه الآية قيل{[2927]} : نزلت الآية{[2928]} بسبب سعد ابن الربيع قتل يوم أحد وترك ابنتين وزوجا وأبا فأخذ أبوه جميع المال ، فنزلت الآية{[2929]} وقيل : نزلت في ورثة ثابت ابن قيس بن شماس . وقيل : مرض جابر فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قال جابر : فأتاني{[2930]} وقد أغمي علي فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم فصب علي وضوءه فأفقت{[2931]} فقلت : يا رسول الله كيف أوصي في مالي ؟ فلم يجبني بشيء ، حتى نزلت : { يوصيكم الله } الآية ، فجعل الله تعالى مال الميت{[2932]} بين جميع ولده { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، إذا لم يكن معهم{[2933]} أحد من أهل الفرائض ، ولو كان معهم من له فرض معلوم لأخذ فرضه قبل ثم ما فضل{[2934]} اقتسمه الأولاد القسمة المذكورة .
وقيل : إن الناس في الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار ولا الإناث ، إنما كانوا يورثون من يقاتل ويذب عن الحريم{[2935]} وقد ورد في بعض الآثار أن ذلك كان في صدر الإسلام أيضا إلى أن نسخته هذه الآية . وهذا الذي ذكر{[2936]} هذا القائل لم يثبت عندنا اشتمال الشريعة عليه ، بل ثبت خلافه من قصة سعد ابن الربيع حين جاءت امرأته بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2937]} ، فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم أحد وقد استوفى عمهما مالهما ، وأن المرأة لا تنكح إلا ولها مال ، فنزلت الآية فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم المال ، ولو كان{[2938]} ثابتا هذا الحكم قبل في شرعنا لما استرجعه{[2939]} .
وقوله تعالى{[2940]} : { في أولادكم } أجمع العلماء على أن المراد بالأولاد هنا من ينسب إليه من أولاده دون من لا{[2941]} ينسب إليه منهم ، والذين ينتسبون إليه{[2942]} هم أولاده ذكورهم وإناثهم ، ثم أولاد أولاده الذكور{[2943]} وذكورهم{[2944]} أيضا وإناثهم ، فأما أولاد بناته ذكورا كانوا أو إناثا فلا ينتسبون إليه ، إنما يقع عليهم اسم الولد من جهة اللغة لا من جهة الشرع . فأما الأولاد{[2945]} ذكورهم وإناثهم وأولاد أولاد الذكور ذكورهم / وإناثهم فهم الولد{[2946]} من جهة اللغة والشرع ، وهم الذين ثبت لهم أحكام الشرع في النسب والميراث ، وعول الشيخ أبو الحسن على أن لفظ الأولاد والولد حقيقة في أولاد الصلب مجاز في ولد ولد ، قال : فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ولد لم يحنث ، قال : ولا خلاف أن ولد الولد على حكم الولد في أن للذكر مثل حظ الأنثيين قال : لكن ليس ذلك كحكم ظاهر لفظ قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } فإن مطلق لفظ الأولاد لا يتناول أولاد الأولاد ، وإنما أخذ ذلك عن طريق الإجماع .
وقد اختلفوا في الرجل يحبس على ولده وأولاده{[2947]} ولم يزد على ذلك فقال الجمهور : الحبس على أولاده وبنيه{[2948]} الذكور والإناث وعلى أولاد بنيه الذكور دون الإناث .
وقال بعضهم : لا يدخل في ذلك إلا ولد المحبس لصلبه خاصة .
وقال بعضهم : تخريجا عن المذهب : لا يدخل فيه إلا ذكور ولده لصلبه خاصة .
وقد اتفق جميع من ذكرنا على أنه لا يدخل في ذلك أولاد البنات ، وهو قول مالك وجميع أصحابه المتقدمين . واحتجوا لذلك بالإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله{[2949]} : { يوصيكم الله في أولادكم } .
وذهب جماعة إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب ، وأنهم يدخلون في الحبس بقول المحبس : حبست على ولدي وعلى عقبي ، وقال ذلك ابن عبد البر{[2950]} واحتجوا بقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } قالوا : فلما حرم الله تعالى{[2951]} بذلك البنات{[2952]} حرمت{[2953]} بذلك بنت البنت{[2954]} بإجماع على أنها بنت فوجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو{[2955]} عقبه ، واحتجوا أيضا{[2956]} بحديث النبي صلى الله عليه وسلم{[2957]} في الحسن رضي الله تعالى عنه{[2958]} : " ابني هذا سيد " {[2959]} فسماه ابنا . وفي الكلام على هذه المسألة طول ، فمن أراد الوقوف عليها{[2960]} فعليه بمظانها ، واختلفوا{[2961]} في بنات الابن هل يرثن مع{[2962]} ابن الابن إذا كان معهن في قعود{[2963]} واحد أو تحتهن ، فذهب الأكثر إلى توريثهن معه ، وذهب بعضهم إلى أنهن لا يرثن معه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فما{[2964]} بقي فللأولى رجل ذكر{[2965]} " . وحجة القول الأول قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية ، لأن ولد الأولاد أولاد{[2966]} سواء اتفقوا في القعود{[2967]} أو اختلفوا إلا ما أجمعوا عليه من أن الأعلى من ولد الولد يحجب من تحته منهم .
وقوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } {[2968]} :
فرض الله{[2969]} تعالى للبنت الواحدة النصف ، وفرض لما فوق الاثنتين من البنات الثلثين . ولم يذكر تعالى الاثنتين فاختلف في فرضهما ، فألحقهما ابن عباس بالبنت الواحدة التي بين تعالى فرضها فرأى للبنتين النصف وألحقهما غيره بما فوق الاثنتين اللاتي بين الله تعالى فرضهن{[2970]} ، فرأوا لهما الثلثين واختلف القائلون لهذا{[2971]} : هل هذا الفرض للبنتين بالسنة أم{[2972]} بالقرآن أو بالقياس ؟ فقال بعضهم : ذلك بالسنة ، وقال الأكثرون : بالقرآن ، واختلفوا في وجه ذلك ، فقال قوم : لما كان للبنت الواحدة مع الذكر الواحد الثلث كان الثلث لها مع الأنثى أوكد ، والله تعالى قد جعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، فإذا اجتمع ذكر وأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث ، فاحتيج{[2973]} بذلك إلى ذكر ما فوق الاثنتين ، ولم يحتج إلى ذكر الاثنتين .
وقال بعضهم : المعنى : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما{[2974]} واستدل بقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ] ، وإنما تضرب الأعناق . وقال قوم ذلك{[2975]} بالقياس واختلفوا في الأصل المقيس عليه ، فجعل بعضهم الأصل في ذلك الإخوة للأم ، وقال : إن حكم الاثنتين منهم فما فوقهما سواء ، فكذلك البنات حكم البنتين منهن{[2976]} ، وحكم ما فوقهما سواء{[2977]} .
وجعل بعضهم الأصل في ذلك الأخوات ، فقالوا : الأخت الواحدة لها النصف كالبنت الواحدة . وميراث الأختين الثلثان ، قالوا : فكذلك يحمل حكم البنتين على حكم الأختين ، كما كان حكم الواحدة{[2978]} .
قوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } :
يريد : إن كانت الوارثة واحدة بنتا فلها النصف لا غير ، وإن كان فضل ولم يكن وارث غيرها كان{[2979]} لبيت المال .
وقد اختلف{[2980]} فيما يفضل عنها عن سائر أهل الفرائض ما عدا الزوج والزوجة ، هل يرد عليه ماله أم يكون لبيت مال المسلمين{[2981]} ؟ فإن لم يكن بيت مال للمسلمين فللفقراء{[2982]} ، فذهب{[2983]} مالك وأكثر العلماء إلى أنه{[2984]} لا يرد شيء على ذوي السهام ، وأن الفاضل من المال يكون لبيت المال والفقراء . وذهب علي ابن أبي طالب{[2985]} رضي الله تعالى عنه إلى أنه يرد عليهم ما فضل عن{[2986]} سهامهم إلا الزوج والزوجة فلا يرد عليهما{[2987]} . وذهب ابن مسعود إلى الرد ، إلا أنه يرد على ستة : الزوج والزوجة{[2988]} ، والأخت للأم مع الأم ، والأخت للأب مع الأخت الشقيقة وبنت الابن مع البنت والجدة مع ذي سهم غير الزوجين . ودليلنا على من يقول بالرد قوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } وقال في الأخت : { فلها نصف ما ترك } [ النساء : 176 ] ، فلم تجز الزيادة على ما نص عليه .
قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } :
يريد أن{[2989]} لكل واحد من أبوي الميت السدس إن كان للميت ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا أو جماعة ، فإن قيل : فيجب أن لا يزاد الوالد على السدس مع البنت الواحدة وهذا بخلاف الإجماع ، قيل : ما زاد الأب على السدس في تلك الفريضة إنما أخذه بالتعصيب لا بالفرض ، وحكم ما أبقت الفرائض أن يكون لأولي عصبة الميت وأقربهم إليه ، فكان{[2990]} الأب ذلك .
قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } : يريد أنه إن لم يكن للميت إلا أبوان أخذت الأم{[2991]} الثلث وأخذ الأب{[2992]} ما بقي .
ولم ينص في الآية على نصيب الأب ، ولكنه لما أثبت الميراث لهما أولا بقوله : { وورثه أبواه } اقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله : { وورثه أبواه } دون تفصيل نصيب الأم ، فلما ذكر نصيب الأم{[2993]} دل على أن للأب الثلثين وهو الباقي بحكم العصوبة{[2994]} . وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما{[2995]} : في زوج وأبوين أو زوجة{[2996]} وأبوين : للأم الثلث كاملا فيكون ميراثا{[2997]} زائدا على ميراث الأب ، وهو أحد الروايتين عن علي{[2998]} خلافا لجمهور أهل العلم في قولهم : إن للأم فيها ثلث ما بقي بعد نصيب الزوجين خلافا لابن سيرين في تفرقته بين المرأة والأبوين والزوج والأبوين ، فإنه يقول في المرأة والأبوين بقول ابن عباس ، وفي الزوج والأبوين لقول الجمهور لئلا يقع تفضيل الأم على الأب ، ونظر ابن عباس جليّ جدا{[2999]} ومخالفة الجمهور لذلك النظر لا يكون إلا عن توقيف إلا أن التوقيف لم يذكر ، فالمسألة مشكلة ووجه مذهب الجمهور أنه إذا وجب أن يبدأ بالزوجين جعل ما بقي كأنه جملة المال لتأخذ الأم ثلثه والأب ثلثيه .
قوله تعالى{[3000]} : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } :
يريد إن كان للميت إخوة فيكون للأم من الأبوين السدس خاصة فيحجبها الإخوة عن الثلث{[3001]} الواحد الذي زيد في فرضها مع عدم الولد للإخوة ما بقي إن لم يكن معهم أب{[3002]} ، وإن كان معهم أب فللأب{[3003]} ما بقي بعد السدس ولا يكون للأخوة شيء ؛ لأن الأب يحجبهم ، فهم يحجبون الأم عن السدس{[3004]} الواحد{[3005]} ، والأب يحجبهم .
ولا يوجد{[3006]} في جميع الفرائض على مذهب زيد ابن ثابت رضي الله تعالى عنه{[3007]} مسألة يحجب فيها من لا يرث غير هذه{[3008]} .
وعن ابن عباس في هذا رواية شاذة ، وهو{[3009]} أن السدس تحجب عنه الأم يكون لمن يحجبها ، وهم الإخوة وإن كان معهم أب ، ويكون للأب الثلثان وهذا خلاف ظاهر الآية . وصار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس ، لأن كتاب الله تعالى{[3010]} في الإخوة ومقتضى قولهم : إن لفظ الإخوة لا يتناول الأخوات كما أن لفظ البنين على قول لا يتناول البنات ، وأيضا فليست{[3011]} قوة ميراث الأخوات مثل قوة ميراث الذكور حتى يلحقن بهم ، وقال : وقوله تعالى{[3012]} : { إخوة } وفعلة من أبنية الجمع القليل ، فعلمنا بذلك أن الأخ الواحد والأخت الواحدة لا يرثان{[3013]} شيئا من ذلك{[3014]} وأن وجودهما وعدمهما في هذه الفريضة سواء : وعلمنا أيضا أن الثلاثة من الإخوة ذكورا كانوا أو إناثا أو ذكورا وإناثا{[3015]} ، يؤثرون{[3016]} في الفريضة المذكورة وتكون بهم{[3017]} على ما ذكرنا ، إذ لم يختلف أحد أن{[3018]} الثلاثة من الجمع القليل . وأما الاثنان ذكرين كانا أو أنثيين أو ذكرا وأنثى{[3019]} فاختلف العلماء هل يدخلان تحت قوله تعالى : { إخوة } فيكونان كالثلاثة { الذين } لم يختلف أن لفظ الإخوة واقع عليهم أو لا يدخلان فيكونان كالواحدة{[3020]} أو الواحد{[3021]} ؛ إذ لم يختلف أنه لا مدخل لهما{[3022]} في ذلك اللفظ .
فقال مالك : مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا واحتج لقوله{[3023]} بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الاثنان فما فوقهما جماعة " {[3024]} ، وبما جاء للجمهور في هذه الآية . وقال ابن عباس : الإخوة الذين عنى الله تعالى{[3025]} بقوله : { فإن كان له إخوة } ثلاثة فصاعدا ، و أنكر أن تحجب الأم عن الثلث مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة . وعلى هذا القول يكون الثلاثة أقل الجمع ، ولا تكون التثنية في شيء من الجمع ، وهاهنا مسألة تظهر بها{[3026]} حجة الجمهور على ابن عباس{[3027]} رضي الله تعالى عنهما{[3028]} وهي إذا كان في الفريضة زوج وأم وأخ وأخت لأم فلا خلاف بين جميع الصحابة أن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ والأخت من الأم الثلث على قول الجمهور ، وحجبت{[3029]} الأم بالأخ والأخت عن الثلث إلى السدس فاستقام لهم ذلك{[3030]} . وأما ابن عباس فلم يجعل للأم الثلث{[3031]} لأنه لو حصل كان الثلث لعالت المسألة وهو لا يرى ذلك وإذا قيل له : فلم كانت الأم أولى بالنقصان من الأخويين فلم يجد إلا كلاما ظاهرا عليه ، واختلف : لم نقصت الأم عن الثلث مع الإخوة وزيد الأب ؟ فقيل : لأن على الأب مؤنتهم وإنكاحهم دون أمهم . وقيل : إنما كان ذلك لئلا / يكون لهم دون أبيهم ، ومال الطبري{[3032]} إلى أن ذلك غير معلوم{[3033]} ، وأن ذلك ليس{[3034]} مما كلفنا علمه وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا .
وقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } :
قال علي رضي الله تعالى عنه : إنكم تقرؤون { من بعد وصية يوصى بها أو دين } وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية والأمة مجمعة على هذا وليس تبدية الوصية في اللفظ مما يوجب تبديتها في الإخراج من الميراث . وإنما توجب الآية أن يكون الدين والوصية يخرجان قبل{[3035]} قسمة الميراث{[3036]} و { أو } ها{[3037]} هنا للإجابة وليست تعطي ترتيبا كالفاء وثم .
وإذا كان ذلك ، فليس في الآية دليل على تبدية الوصية على الدين أو الدين على الوصية ولكنه{[3038]} فهم بالسنة أن الدين أولى بالتقديم ، لأن أداء{[3039]} الدين فرض ، والوصية إنما هي تطوع والفرض أولى من التطوع ، ولو قال تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } لتوهم أن ذلك يجب باجتماعهما فعدل إلى لفظ " أو " . ويحتمل أن يقال : ذكر الله تعالى الوصية قبل الدين لأن الوصية أغلب وأكثر من الدين ، فإنه يموت كثير من الناس ولا دين عليهم ولا يموت الإنسان غالبا إلا وقد وصى بوصية ، ويحتمل أن يقال : إن بيان الوصية كانت الحاجة إليه أكثر ، لأن قضاء الدين من التركة مشهور ، وقدم ذكر الوصية لذلك وقد أطلق الله تعالى لفظ الوصية ولم يخصص القدر الذي يجوز أن يوصي به من مال كما لم يخصص قدر الدين ، بل ظاهر العموم جواز الوصية بالقليل والكثير ، لأن الخبر الصحيح من وصية سعد دل على أن الزيادة على الثلث غير جائزة ، فيخصص العموم بذلك إذا كان هناك وارث معين ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام{[3040]} : " لأن تدع ورثتك أغنياء " الحديث{[3041]} ، فإذا لم يكن وارث معينا ، فهل تبقى الآية على عمومها من جواز الوصية بالقليل والكثير أم لا ؟ {[3042]} اختلف العلماء في ذلك : فذهب أبو حنيفة إلى أنها باقية على موجب العموم من جواز الوصية بالقليل والكثير وإن استغرق المال الوصية{[3043]} ، وخالف{[3044]} مالك والشافعي ومن حجتهم أن قوله تعالى : { يوصي بها أو دين } إنما{[3045]} ورد في بعض الورثة{[3046]} ، ولم يرد مطلقا فكيف يمكن الاستدلال بعمومه ، وهذا قاطع{[3047]} من منع{[3048]} الاستدلال بعموم آية الوصية . وإذا امتنع ذلك بقينا على الأصل الذي هو امتناع التصرف في المال بعد الموت إلا بقدر ما استثني . ودل الخبر أيضا أن النقصان من الثلث مستحب لقوله صلى الله عليه وسلم{[3049]} " الثلث{[3050]} والثلث كثير " {[3051]} ودل على أنه كان قليل المال وورثته فقراء ، فالمستحب أن لا يوصي{[3052]} لقوله عليه الصلاة والسلام{[3053]} : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة{[3054]} يتكففون الناس " . ودل ظاهر قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } على أن كل ما يسمى دين مقدم على الميراث كدين الزكاة ودين الحج على قول من يرى الحج عن{[3055]} الميت إن{[3056]} لم يوصى به ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه دين الله ، فقال : " دين الله أحق أن يقضى " {[3057]} وعموم قول تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } يشتمل أيضا على الوصية للوارث{[3058]} والأجنبي ، لكن الخبر جاء{[3059]} بأنه لا وصية لوارث ، فتخصص ذلك بالخبر والإجماع أيضا . ومن الآية أيضا دليل على أن القسمة من التركة{[3060]} لا تجوز إلا بعد أداء الدين وإخراج الوصية .
واختلف{[3061]} في الغريم والموصى له بعدد يطرأ على الورثة وقد اقتسموا التركة هل تنقص القسمة لذلك أم لا ؟ {[3062]} .
فروى أشهب{[3063]} عن مالك أنها تنقض على كل حال ، وإن أراد الورثة أن يؤدوا الدين ولا تنقض القسمة وشاء الغرماء ذلك .
وحجته ظاهر هذه الآية ، لأنه إنما{[3064]} أباح الله تعالى{[3065]} قسمة المال بعد أداء الدين والوصية فلا يتعدى ذلك . وذهب أشهب وسحنون إلى أن القسمة لا تنقض على كل حال ، قالا : ولكن يقضي المال{[3066]} على ما بأيديهم على اختلاف بينهما في كيفية ذلك . وهذا القول إحدى الروايتين عن ابن القاسم . وقال ابن القاسم{[3067]} : في{[3068]} المشهور عنه : إنها تنقض إلا أن يؤدي الورثة الدين من مالهم{[3069]} أو من التركة ، وعلى هذا اختلفوا في رجل هلك وعليه دين وترك مالا ، هل يجوز فقبل أداء الدين لورثته أن يصالحوا{[3070]} امرأته على ميراثها من التركة بعد أداء الدين أم لا ؟ فعلى مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ذلك{[3071]} جائز . وأما على رواية أشهب عن مالك فلا يجوز من أجل الدين ، لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } {[3072]} . واختلف في الغريم يطرأ على ورثته وعلى الغرماء ، وقيل : يرجع على الغرماء وقيل : يرجع على الورثة ، وهذا أصح ، لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ، فجعل الميراث بعد أداء الدين ؛ فدل على أنه لا يستحق ميراثا مع بقائه . وكذلك اختلف فيمن ترك مالا وعليه دين وفي بعض ماله وفاء بالدين{[3073]} فقام بعض الورثة فباع بعض الأموال لنفسه ، وفيما بقي وفاء بالدين{[3074]} ، فروى أشهب عن مالك : أنه لا يجوز ذلك ، ويفسخ البيع ، ولا ميراث{[3075]} لأحد حتى يقضي الدين ولعل تلك الأموال تهلك فأرى{[3076]} هذا البيع مفسوخا ؛ لقوله عز وجل{[3077]} : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ، وهذا القول خلاف قول ابن القاسم في مسألة الصلح المتقدمة ، وخلاف ما روي عنه من أن بيع الورثة التركة إذا لم يعلموا بالدين جائز ، فالبيع والقسمة من ذلك الفضل على هذا جائز .
واختلف في الرجل يموت وعليه دين ويترك امرأته حاملا ، هل يؤدي دينه قبل أن تضع المرأة أم ينتظر وضعها ؟ فالمشهور أنه يؤدي{[3078]} الدين ولا ينتظر الوضع لأنه إنما يؤثر في القسمة لا في الدين . والله تعالى قد أمر بتأدية الدين قبل القسمة ولم يخص من الورثة حملا من غير حمل وذكر بعض المتأخرين : أنه لا يخرج الدين حتى يوضع الحمل ، والوصية بعدد{[3079]} القول فيها كالقول في الدين . وأما الوصية بالثلث مع الحمل ، فالخلاف فيها معروف من كتب العلماء . واختلف في الموصي{[3080]} إذا كان له جد أو أب وله أولاد صغارن تضع المرأة أم ينتظر وضعها ؟ فالمشهور أنه يؤديأن ةة هل يجوز{[3081]} إلى أجنبي{[3082]} بالنظر في أولاده وسائر وصاياه أم لا يجوز : فعند المالكية أن ذلك يصح ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يوصي إلى أجنبي{[3083]} في أمر أولاده{[3084]} مع وجود أبيه وجده{[3085]} إذا كانا من أهل العدالة ، لأن ولاية الأصاغر تنتقل إليهما بغير تولية . ودليل قول مالك عموم ظاهر الآية ، لأنه قال تعالى{[3086]} : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فعم ولم يخص . واختلف في العبد هل يجوز أن يكون وصيا أم لا ؟ فعند المالكية أنه يجوز أن يوصي عبد أو مكاتبه أو عبد عبده{[3087]} ، وعند الشافعي أنه{[3088]} لا يجوز أن يوصي للعبد على كل حال ، وكذلك قوله في المكاتب ؛ والدليل على قوله تعالى : { من بعد وصية } {[3089]} فعم .
واختلف في الوصية للمشركين ، فعند المالكية أنها جائزة على كراهية{[3090]} كانوا أهل الحرب أو ذمة . وقال أبو حنيفة : لا تصح لأهل الحرب ، والدليل عليه قوله تعالى : { من بعد وصية } الآية ، فعم .
واختلف في الرجل يموت ويترك لحم أضحية فقيل : إنه يكون لأهل بيته يأكلونه على نحو ما كانوا يأكلونه لو لم يمت ، ورثة كانوا أو غير ورثة ، وهو{[3091]} قول مالك . والقول الأول أظهر لأن الورثة إنما يقتسمون على الميراث ما تكون فيه الوصية والدين لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . وهذا اللحم لا وصية فيه ولا دين .
وقوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم } الآية :
اختلف{[3092]} في تأويله ، فقيل : معناه أقرب لكم نفعا في الآخرة وروى بعض المفسرين أن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله تعالى{[3093]} فرفع إليه أباه ، وكذلك إن كان الأب أرفع من ابنه . وقيل : معناه لا تدرون أيهم أقرب إليكم نفعا في الدنيا{[3094]} .