12 - وقوله تعالى : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } الآية :
بين في مورث الزوج من زوجته والزوجة من زوجها ، وأن الولد يحجب الزوج عن{[3095]} النصف إلى الربع ، ويحجب الزوجة عن{[3096]} الربع إلى الثمن .
واختلف في والد الولد هل{[3097]} يحجبون كالولد{[3098]} أم لا ؟
فذهب الأكثر{[3099]} إلى أنه كالولد في الحجب ، لأن اسم الولد واقع عليه . وذهب ابن عباس إلى أنهم لا يحجبون لقوله تعالى : { إن كان له ولد } ، قال : وليس هذا بولد ، والحجة عليه ما قدمنا من أنه ولد .
واختلف في العول : وأول من نزل به ذلك{[3100]} عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه{[3101]} ، فقال : لا أدري من قدمه الكتاب فأقدمه ولا{[3102]} من أخره فأؤخره ، ولكن رأيت رأيا فإن يكن صوابا فمن الله تعالى{[3103]} ، وإن يكن خطأ فمن عمر ، وهو أن يدخل الضرر على جميعهم وينقص كل واحد من سهمه . وحكم بالعول ، ويقال : إن الذي أشار عليه به : العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه{[3104]} ، وخالفه ابن عباس فلم ير العول ، وقال : لو أن عمر نظر من قدمه الكتاب فقدمه ، ومن أخره فأخره ما عالت فريضة{[3105]} ، فقيل : وكيف يصنع ؟ قال : ينظر أسوأ الورثة حالا وأكثر تغيرا فيدخل عليهم الضرر ، وهو على قوله : البنات والأخوات ، والصواب ما ذهب إليه الجماعة ، ودليلهم أن الله تعالى قال في الأزواج : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } . وقال في البنات : { وإن كانت واحدة فلها النصف } . وقال : { وله أخت فلها نصف ما ترك ) ، ولما كان الزوج لا يمت في الظاهر إلا بمثل ما تمت{[3106]} به الابنة والأخت وجب{[3107]} أن يتساويا في النقص .
وقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } :
اختلف في اشتقاق الكلالة ، فقيل : من الإحاطة لذلك سمي الإكليل إكليلا لأنه محيط بالرأس ، فكان هذا الميت يحاط به من جنباته{[3108]} . وقيل : أخذت من البعد والانقطاع ، من قولهم : كلت الرحم إذ تباعدت فطال انتسابها ، يقال : كلت الرحم إذا تباعدت ، ولحت إذا قربت ، يقال : هو أن عمي لحا أي هو ابن أخي{[3109]} أبي ، . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهو{[3110]} ابن عمي كلالة أي من عشيرتي . قال الشاعر{[3111]} .
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة *** عن أبي مناف عبد شمس وهاشم{[3112]}
يعني ورثتموها بالآباء لا بالإخوة والعمومة ، ويمكن أن يكون مأخوذا من الكلال وهو الإعياء ، ومنه الكلال في المشي . وفي الكلالة يقول الشاعر{[3113]} :
فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب{[3114]} {[3115]}
واختلف بعد هذا الاشتقاق فيما يقع عليه هذا الاسم{[3116]} ، فقال قوم : الكلالة الوارثة إذا لم يكن فيها ولد ولا والد ، وإذا فسرت به{[3117]} هذه الآية كانت الكلالة مصدر في موضع الحال . وقال بعضهم : هي نصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف : تقديره : ورأته كلالة ، وهو قول ضعيف .
وقال قوم{[3118]} : الكلالة اسم الميت{[3119]} الذي لا ولد ولا والد ، ووقع{[3120]} على{[3121]} المذكر{[3122]} ، وإن كان فيه{[3123]} " هاء " التأنيث كضرورة{[3124]} المذكر{[3125]} والمؤنث فيه{[3126]} سواء{[3127]} . ونصبه على هذا القول على الحال من الضمير{[3128]} في يورث ، وهو العائد على الرجل ، ورأى بعضهم نصبه على التمييز ، ونصبه بعضهم على خبر كان . وقال قوم{[3129]} : الكلالة اسم للورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد ، واحتجوا بقول جابر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما ترثني كلالة " ، وكان أبوه قتل يوم أحد ، وبقراءة من قرأ يورث بكسر الراء وشددها بعضهم ، ونصبه على هذه القراءة على المفعول ، وعلى القراءة المشهورة تنتصب{[3130]} الكلالة على أنها خبر كان . والتقدير : ذا كلالة ثم حذف المضاف " وأقيم المضاف " إليه مقامه ، وبعضهم ينصبه على التمييز أو على حال ، ويجعل كان التامة لا الناقصة . وقال قوم : الكلالة اسم للمال الذي لا يرثه ولد ولا والد ، ونصبه على هذه القراءة على التمييز ونصبه بعضهم على النعت لمصدر محذوف وهو ضعيف . ونصبه بعضهم على المفعول الحقيقي ، ويأتي هذا على أن ورث يتعدى إلى مفعولين ، وذهبت طائفة وهم{[3131]} الشيعة{[3132]} إلى أن الكلالة من لا ولد له ذكرا كان أو أنثى ، وإن كان له أب أو جد فورثوا الإخوة والأخوات مع الجد والأب ومنعوهم من الوراثة مع البنت . وروي هذا القول عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه ، وروي عن ابن عباس وهي رواية شاذة لا تصح عنه ، والصحيح ما عليه جماعة العلماء ، فعلى هذا يأتي في الأب قولان : هل يدخل في الكلالة أم لا ؟
فمن لم يدخله في الكلالة لم يورث الإخوة معه ، وهو الصحيح{[3133]} . ومن أدخله في الكلالة ورثهم معه{[3134]} ، ويأتي في الجد قولان أيضا ، كذلك فمن جعله أبا وكان الأب عنده لا يدخل في الكلالة لم يورث الأخوة معه{[3135]} ، وهو قول أبي حنيفة أنه يسقطهم وينفرد بالمال ، وروي عن أبي بكر وابن عباس وعائشة وابن الزبير{[3136]} : ومن لم يجعله أبا ورث الإخوة معه وجعل الوراثة كلالة ، وهو قول عثمان{[3137]} وعلي وابن مسعود{[3138]} وزيد{[3139]} وفقهاء المدينة . واختلفت الرواية فيه عن عمر{[3140]} اختلافا كثيرا ، فتارة لا يجعل الوالد كلالة ، وتارة كان{[3141]} يجعله كلالة . ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3142]} إلى آية الصيف ولم يجبه عن{[3143]} سؤاله ، ووكله إلى استنباطه .
وفيه دليل على جواز{[3144]} تفويض الأحكام إلى الاجتهاد ، وعلى جواز استنباط معاني{[3145]} القرآن بالاجتهاد خلافا لمن منع ذلك .
ويأتي أيضا في البنت قولان فمن أدخلها في الكلالة ورث معها الإخوة والأخوات ، وهو قول الجمهور . ومن لم يدخلها في الكلالة{[3146]} لم يورثها معها{[3147]} ، وهو قول ابن عباس ، وبه قال داود ، وإليه ذهب الشيعة ، وحجتهم قول الله تعالى عز وجل في آخر السورة : { ليس له ولد وله أخت } فشرط عدم الولد ، وسيأتي الكلام على المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى ، وقد مضى منها طرف . وقال قوم : الكلالة من{[3148]} لا ولد له مطلقا ، وهذا القول أردؤ الأقوال وأسقطها{[3149]} ؛ لأن الأمة مجمعة على أن الإخوة لا يرثون مع الولد والذكر . ومن حجة الجمهور قوله تعالى : { قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] ، فأطلق اسم الكلالة ثم فسرها بميراث الإخوة منفردين . فدل ذلك أن الكلالة لا يدخل{[3150]} فيها ولد ولا والد ، وقوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } إلى قوله : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } [ النساء : 11 ] ، فلم يجعل للأخوة ميراثا مع الولد فخرج الولد من الكلالة والوالد جميعا ، والابنة أيضا ليست بكلالة كالابن فأخوة الأم لا يرثون معها ، لأنه تعالى شرط توريث إخوة الأم بأن{[3151]} يكون الميت كلالة أو الوارث كلالة .
قوله تعالى : { وله أخ أو أخت } :
أجمع الناس أنه أراد الأخوة للأم في هذه الآية ، وكان سعد{[3152]} ابن أبي وقاص يقرأ : { وله أخ أو أخت من أم } ، فعلى ما في الآية إذا انفرد أخ أو أخت ، فلكل منهما السدس فإن كانا اثنين فصاعدا ذكورا أو إناثا فهم شركاء في الثلث على السواء لا يفضل ذكر على أنثى .
واختلف في المسألة الحمارية وتسمى أيضا المشتركة ، وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء ، فذهب قوم إلى أن الزوج يأخذ النصف والأم السدس{[3153]} والإخوة للأم الثلث ولا يكون للأشقاء شيء ، قالوا : لأنهم عصبة وقد استغرقت{[3154]} الفرائض المال ، وهو قول علي وأبيّ{[3155]} وابن مسعود وأبي موسى{[3156]} ، وإليه ذهب ابن أبي ليلى{[3157]} وطائفة من الكوفيين ، وذهبت طائفة إلى أنه{[3158]} يأخذ الزوج النصف والأم السدس ويبقى الثلث وهو نصيب الإخوة للأم . قالوا{[3159]} : فيقول لهم الإخوة الأشقاء{[3160]} إنما ورثتم هذا الثلث من قبل الأم ، وأمنا وأمكم واحدة والله تعالى جعل ذلك الثلث للإخوة للأم ، والكل منا إخوة للأم وهب أن أبانا كان حمارا ، فيشرّكونهم في ذلك الثلث ذكورهم وإناثهم فيه سواء ، وهو قول عمر وعثمان ، وإليه ذهب مالك والشافعي والثوري{[3161]} وإسحاق وحجتهم الآية{[3162]} ، قوله تعالى{[3163]} : { وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } .
قوله تعالى : { غير مضار وصية من الله } :
قال ابن عباس : الإضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه عن{[3164]} النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى أبو هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم{[3165]} قال : " من ضار في وصية ألقاه الله تعالى في{[3166]} وادي جهنم{[3167]} " ووجوه الضرر في ذلك لا تنحصر وكلها ممنوعة للآية ، مثل أن يقر بما ليس عليه{[3168]} أو يوصي بأكثر من الثلث . قال الشيخ أبو الحسن : وقوله تعالى : { غير مضار } .
يمنع التعلق بعموم آية الوصية فيما يقع فيه التنازع ، فلا يدري{[3169]} أنه من قبيل المضارة أم لا ؟ فيمتنع التعلق بعمومه لمكان الاستثناء المبهم ولا يعد مضارا في ثلثه ، فإن علم أنه أراد بما يصنع فيه من التصرف الضرر ، ففيه في المذهب قولان ، أحدهما : أنه لا يعد إضراره في الثلث إضرارا وأنه ينفذ . وقيل : إنه يرد ويؤيد هذا قوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم } الآية [ البقرة : 182 ] ، ومما يتعلق بمعاني هذه الآية أن عموم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } مع ذكر الزوجة والزوج والأخوات والإخوة دال على جواز الميراث في مسائل : منها القاتل . وقد اختلف فيه على المذاهب : أحدها أن القتل لا يمنع الميراث ، عمدا كان أو خطأ وهو قول الزهري والبصريين{[3170]} ، وقيل إنه يمنع الميراث عمدا كان أو خطأ{[3171]} وهو قول الشافعي . وقال مالك : القاتل عمدا لا يرث والقاتل خطأ يرث من المال ولا يرث من الدية ، وكذلك اختلف فيمن فيه بقية رق{[3172]} ، فالجمهور{[3173]} أنه لا يرث ، وقال أبو يوسف والمزني{[3174]} : يرث . وكذلك إذا مات ورثته{[3175]} على قول الجمهور من{[3176]} له فيه خاصة/ ، وقال أصحاب{[3177]} الشافعي أن ورثته يرثون النصيب الحر{[3178]} . وقال بعضهم : هو لبيت المال ، وكذلك اختلف : هل يرث المسلم الكافر أم لا ؟ فالجمهور على أنه لا يرث ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتوارث أهل ملتين " {[3179]} . وقال معاوية ومحمد بن الحنفية{[3180]} ومحمد ابن الحسن : المسلم يرث قريبه الكافر ، واتفقوا أنه لا يرث الكافر المسلم ، وكذلك اختلف في ميراث المرتد إذا قتل على ردته ، فقال مالك والشافعي لبيت المال وقال أبو حنيفة : لورثته المسلمين . وقيل : ما كسب في حال إسلامه لورثته المسلمين وما كسب في{[3181]} حال ردته لبيت المال . وروي عن قتادة{[3182]} أن{[3183]} ميراثه لأهل الدين الذي ارتد إليه{[3184]} . وعموم الآية يدل على التوارث في هذه المسائل غير أن الأخبار الخاصة منعت من ذلك ، وخصصت ذلك العموم . ومن ذلك اختلاف{[3185]} الصحابة رضي الله تعالى{[3186]} عنهم في{[3187]} ميراث النبي صلى الله عليه وسلم : فذهب جماعة إلى أنه يورث تعلقا بعموم هذه الآية . وذهب جماعة{[3188]} إلى أنه لا يورث وخصص الآية{[3189]} بما نقل عنه عليه الصلاة والسلام{[3190]} من قوله : " نحن معاشر الأنبياء{[3191]} لا نورث ما تركنا صدقة{[3192]} " وبعضهم رواه صدقة بالنصب ولم ير على ذلك في الحديث{[3193]} حجة .