16 قوله تعالى : { فآذوهما } :
اختلف في ذلك الإذاء ، ما هو ؟ فقال عبادة والسدي{[3196]} هو التعيير والتوبيخ . وقيل : هو السب والجفاء دون تعيير . وقال ابن عباس{[3197]} : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه ، فثبت بالآية الأولى أن حكم الزنا الإمساك في البيوت حتى يموتوا{[3198]} ، وثبت بالآية بعدها{[3199]} أن الحكم فيهن الإذاية على ما قدمناه ، والأولى منسوخة باتفاق . والثانية أيضا منسوخة إلا في قول من قال : إن الأذى والتعيير باقيان مع الجلد ، لأنهما لا تعارض بينهما فلا يقع فيهما نسخ . وقد{[3200]} اختلف في كيفية ترتيب النسخ في هاتين الآيتين على أقوال ثمانية ، وقيل : إن الآية الأولى في المحصنين والآية الثانية في البكرين ورجح الطبري هذا القول وهو قول حسن لولا أن لفظ الآية ينبو عنه فيضعف ، لأن قوله{[3201]} : { والتي } لا يعطي إلا{[3202]} النساء خاصة ، والمؤنث لا يغلب على المذكر إلا في موضعين ليس هذا منهما إلا أن يريد أن اللفظ إنما هو للنساء خاصة ثم دخل الرجال في ذلك الحكم حملا لهم على النساء ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام{[3203]} : " من أعتق شركا له في عبد " {[3204]} ، فلحقت به الأمة في ذلك من غير أن يقال اللفظ جامع للرجال والنساء . وقد اختلف في تسمية مثل هذا قياسا وقرأ ابن مسعود : { والذين يفعلون منكم } ، وعلى هذا القول{[3205]} لا يصح أن تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى . لاختلاف الحكمين والمحكوم فيهما وتكون الآية الأولى{[3206]} منسوخة بأحد أمرين إما بالرجم المتواتر نقله المنسوخ في القرآن تلاوته على قول من ذهب إلى ما روى عن عمر ابن الخطاب{[3207]} من قوله{[3208]} : " الثيب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة " {[3209]} ، وأنه كان قرآنا فنسخ تلاوته وبقي حكمه . وقد أنكر هذا قوم وسيأتي الكلام عليه في سورة النور إن شاء الله تعالى{[3210]} . أو بقول الله عز وجل : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } الآية [ النور : 8 ] ، لأن العذاب المذكور في الآية الرجم على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكون الآية الثانية{[3211]} منسوخة بقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } الآية [ النور : 2 ] . وقيل : إن الآيتين في الزانيين البكرين ، وقيل : في الزانيين المحصنين{[3212]} ، وقيل : هما عامتان في الصنفين والضعف الذي ذكرناه في القول الأول داخل في هذه الأقوال . ولا بد على كل واحدة من هذه الثلاثة الأقوال{[3213]} أن تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى . وقد اختلف في ذلك على قولين ، أحدهما : أن الأولى منسوخة بالثانية ، وهو قول عبادة{[3214]} والحسن ومجاهد ، وقيل : إن الثانية منسوخة بالأولى ولكن التلاوة أخرت وقدمت ذكره ابن فورك{[3215]} ورجحه بعضهم . ثم إن الناسخة في الآيتين لا بد أن يكون منسوخا على القول بأن الآيتين جميعا منسوختان فعلى القول الأول{[3216]} بأنها في الأبكار خاصة{[3217]} ، يكون الناسخ قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا } الآية [ النور : 2 ] ، لأنها إنما هي في الأبكار على القول / المشهور . وعلى القول بأنهما في المحصنين يكون الناسخ إحدى الآيتين التي قدمنا ذكرهما في الرجم{[3218]} ، وعلى القول بأنهما في الصنفين يكون الناسخ آية الجلد وآية الرجم ، وقيل : الآية الأولى في النساء خاصة المحصنات كن أو غير محصنات والآية الثانية في الرجال{[3219]}خاصة وبين لفظ التثنية صنفي الرجال فيمن أحصن وفيمن لم يحصن{[3220]} ، فكانت عقوبة النساء الحبس وعقوبة الرجال الأذى ، ولم تكن إحدى الآيتين ناسخة للأخرى . ثم نسخ ذلك في آيتي الجلد والرجم ، وهو قول مجاهد . وروي عن ابن عباس{[3221]} : وهذا القول في الآية عندي أحسن الأقوال وأصح على القوانين العربية ويؤيده من جهة اللفظ : قوله في الأولى : { من نسائكم } وقوله في الثانية : { منكم } ، فالذي يتحصل في هاتين الآيتين ثمانية أقوال .
قوله تعالى : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } :
أمر بكف الأذى عنهما بعد التوبة ، ولا خلاف بين أحد من أهل{[3222]} العلم أن الحد لا يقام بأقل من أربعة شهداء ، رجال عدول ، وعلى معاينة الفعل كالمرود في المكحلة ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ، وقوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] ، وقد حكي عن قوم أنهم أجازوا شهادة{[3223]} ثلاثة رجال وامرأتين . وحكي عن البتّي{[3224]} وهو غلط ؛ لقوله تعالى : { أربعة منكم } ، وهو يخاطب الرجال . واختلف{[3225]} هل من شرط الشهادة في ذلك أن تكون في مجلس واحد فلا تقبل شهادتهم إذا كانوا متفرقين أم ليس من شرطها ذلك . وتقبل الشهادة إذا جاء الشهداء مجتمعين أو متفرقين على قولين في المذهب . والآية حجة لمن يرى ذلك ، لأن الله تعالى لم يذكر في الشهداء الأربعة افتراقا ولا اجتماعا ، فيحمل على عمومه حتى يقوم الدليل على غير ذلك . واختلف في اليهوديين والنصرانيين إذا زنيا هل يقام عليهما الحد كما يقام على المسلمين ؟ فذهب مالك{[3226]} ومن تابعه إلى أنهما{[3227]} لا يقام عليهما الحد ، ولكن يؤذيان إذا أعلنا ذلك . وذهب أبو حنيفة{[3228]} والشافعي{[3229]} إلى أنهما يرجمان إن كانا محصنين ويجلدان إن كان بكرين ، والحجة عليهما قوله تعالى : { والتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ، فدل على أن ما عداهن بخلافهن .