23 قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } الآية :
هذه الآية وغيرها خصصت عموم آيات أخر تقتضي إباحة نكاح{[3372]} جميع النساء ، و{[3373]} منها قوله{[3374]} : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] ، الآية ، وقوله{[3375]} : { وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] الآية ، لكن الله تعالى{[3376]} خصص مما{[3377]} يقتضي ذلك العموم سبع عشرة امرأة ، فلم يجز نكاحهن : سبع بالنسب ، واثنان بالرضاعة ، وست بالصهر ، واثنتان بالدين . فأما السبع بالنسب ، فالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، وهن المذكورات/ في هذه الآية . وأما الاثنتان بالرضاعة{[3378]} : فالأمهات والأخوات وهما المذكورتان في هاته{[3379]} الآية أيضا .
وأما الست{[3380]} بالصهر : فأمهات امرأة الرجل والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين وهؤلاء الأربع مذكورتان في هذه الآية . فأما الاثنتان المكملتان الست : فحلائل الآباء ، وقد تقدم ذكرهن في الآية قبل هذه ، والمحصنات من النساء وسيأتي ذكرهن في الآية بعد هذه ، فهؤلاء الست بالصهر . وأما الاثنتان بالدين فلم يقع لهما ذكر في هذه الآية{[3381]} ، وهما : المشركات حتى يؤمن وقد تقدم ذكرهن في سورة البقرة{[3382]} ، والإيماء المشركات ؛ لقوله تعالى : { من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] {[3383]} ، وسيأتي ذكرهن في الآية بعد هذه .
وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } هل هو نص صريح أم{[3384]} مجمل ؟
فذهب قوم من القدرية إلى أنه مجمل ، لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم وإنما يتصف بذلك ما يتعلق{[3385]} بها من الأفعال . وذلك الفعل{[3386]} في هذه الآية لا يدرى ما هو ؟ هل النظر أو المضاجعة{[3387]} أو الوطء{[3388]} فلا يدري أي ذلك حرم ولولا تبيينها{[3389]} بغيرها لما علم المراد منها . وذهب الأكثر إلى أن هذا نص لكنه ليس بنص بالوضع ، ولكنه نص بالعرف ، لأن الأسماء قسمان ، وضعية وعرفية . والوضعية{[3390]} هي التي وضعت لشيء ما{[3391]} ولا تقع على غيره . والعرفية التي خصصت ببعض موضوعها أو نقلت عنه إلى سواه فصارت فيما خصصت{[3392]} به أو نقلت إليه أعرف وأشهر وهذه تلحق بالوضعية بعرف الاستعمال فيها . ومن لاحن العرب ومارس اللغة واطلع على عرف أهلها علم{[3393]} أنه لا يستراب في أن من{[3394]} قال : حرمت/ عليك الدار إنما يريد الجماع{[3395]} وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا ؟
وقال قوم : هو من قبيل المحذوف ؛ كقوله : { وسئل القرية } وهذا إن أراد به أنه مجاز فيلزم أن تسمى الأسماء العرفية{[3396]} مجازا ، ويدخل في قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } ، كل من لها عليك ولادة ؛ لأنها أم . وفي قوله{[3397]} : { وبناتكم } كل من لك عليها ولادة ، لأنها بنت ولفظ الأمهات حقيقة في الأمهات الوالدات مجاز في أمهات الأمهات وأمهات الآباء والأجداد . وكذلك البنات حقيقة في المولودات مجاز في{[3398]} بنات البنات وبنات البنين ، لكن التحريم شامل . فأما على قول من يرى اللفظ الشامل للحقيقة والمجاز عاما فتعلقه بالآية في التحريم{[3399]} ظاهر . لكنه قول ضعيف ، ومن لم ير ذلك فوجه تعلقه بالتحريم الإجماع . والدليل على أن{[3400]} اسم الأمهات ليس حقيقة في الجدات أن{[3401]} الصحابة{[3402]} لم يفهموا في ميراث الأبوين ، ميراث الجدات والأجداد حتى يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم . واستنبط أهل الإجماع بدقيق النظر ، وروى لهم الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى{[3403]} الجدة السدس . واختلفوا{[3404]} في الجد مع الإخوة ولم يجهلوا معنى الاسم .
وقد اختلفوا في بنات{[3405]} الإنسان{[3406]} من الزنا ، هل تحرم عليه أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : تحرم ، وقال الشافعي : لا تحرم . وقال مالك : مثل قول أبي حنيفة وقال ابن الماجشون{[3407]} مثل قول الشافعي . واحتج المحرمون من الحنفية بأن قالوا : هي بضعه{[3408]} فحرمت عليه كابنته من نكاح . واحتج من لم يحرم بأن الله تعالى إنما حرم/ على الإنسان البنت المضافة إليه ، لقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } فأضاف التحريم إلى هذا الاسم المشتق فكأنه قال : حرمت البنت لبنوتها . وهذه الصبية الحاصلة من الزنا غير مضافة إلى الزاني ، فلم تدخل في آية التحريم . وإذا خرجت من آية التحريم{[3409]} دخلت في آية التحليل ، وهي قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلك } {[3410]} ، وقال من حرم : الآية{[3411]} التي تمسكوا{[3412]} بها عامة ، فإن ولده من الزنا ولد له{[3413]} حقيقة ، وانتفاء الأحكام لا يدرأ هذه الحقيقة . والتحريم مما يختاط له ، ثم حرم الله تعالى بعد الأمهات البنات الأخوات{[3414]} . وذكر بنات الأخوات{[3415]} لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجاز ولا حقيقة . والكلام في أمر العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهات الرضاعة وما يحرم بسببهن{[3416]} الكلام فيما تقدم ، فيدخل في قوله{[3417]} { وأخواتكم } جميع الأخوات أشقاء أو غير أشقاء{[3418]} ، وفي قوله{[3419]} : { وعماتكم وخالتكم } كل من ولده جدك أو جدتك وإن علوا{[3420]} من قبل الأب كانا أو من قبل الأم{[3421]} . ولا يدخل في ذلك شيء من بناتهن . قال تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خالاتك } الآية [ الأحزاب : 50 ] .
وفي قوله تعالى : { وبنات الأخ وبنات الأخت } : كل من لأخيك عليه ولادة ولأختك عليه ولادة ، ويدخل في قوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعناكم } أمهاتهن وإن علون ، وفي قوله{[3422]} : { وأخواتكم من الرضاعة } ، الأخوات للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم . وعند الجمهور أن الأمر كذلك يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، كما جاء في الحديث{[3423]} . وقال نفاة القياس : لا يحرم بالرضاع إلا/ الأمهات والأخوات ؛ لقوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة } {[3424]} ، فلو حرم غيرهن لذكره{[3425]} ؛ ولقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } فدل{[3426]} ذلك على إباحة حليلة الابن من الرضاع .
واختلف في قدر ما يحرم من الرضاع على أربعة أقوال :
فقيل : المصة الواحدة تحرم ، وقيل : الثلاث{[3427]} وقيل : الخمس ، وقيل : العشر . والأول أصح . قال ابن القصار{[3428]} : الاعتبار{[3429]} فيه حصوله{[3430]} في البطن ، يريد لعموم قوله تعالى : { التي أرضعناكم } ولم يخص فوجب تعلق الحكم بما يقع{[3431]} عليه اسم الرضاعة ، إلا أن يأتي ما يخص ذلك بسنة أو إجماع أو دليل . وقد ضعف بعضهم التعلق بهذا العموم ، لكونه جاء لغرض{[3432]} آخر غير غرض النعيم ، وإن كانت صغته صيغة{[3433]} العموم . والشافعي يمنع الاستدلال{[3434]} بجنس{[3435]} هذا العموم .
واختلف في ابن الصغيرة هل يحرم أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يحرم . وقال ابن الجلاب{[3436]} : إن كانت صغيرة مثلها لا يوطء لا يحرم{[3437]} والأول أقيس لعموم قوله تعالى : { التي أرضعناكم } .
واختلف في رضاع الرجل هل يحرم أم لا ؟ فقال مالك : لا يحرم ؛ لقوله عز وجل{[3438]} : { وأمهاتكم التي أرضعناكم } {[3439]} ، ولا أرى هذا أما . وقال بعض{[3440]} أهل المذهب : يقع بلبنه التحريم ، وقد يتأول على مالك قال : وذكر الله تعالى{[3441]} الأمهات لأنه الغالب . واختلف في لبن البهائم هل يحرم أم لا ؟ فالجمهور على أنه يحرم ، وذهب قوم من أهل المدينة : إلى وقوع التحريم به{[3442]} . وحجة القول الأول : قوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعناكم } والبهائم لا تكون أمهات . واختلف في لبن الفحل هل يحرم أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا يحرم . واحتجوا بقوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعناكم } ولم يقل : وبناتكم/ من الرضاعة ، فلو كان للفحل لبن لحرم{[3443]} البنت من الرضاع{[3444]} كما حرم الأم والأخوات . والجمهور على أنه يحرم ، والحجة له حديث أفلح{[3445]} وغيره . وقال ابن سيرين : كرهه قوم ، ولا يرى قوم{[3446]} به بأسا ، ومن كرهه كان أفقه .
واختلف في رضاع الكبير ، حرم به قوم ، ومن حجتهم : ظاهر الآية ولم يحرمه الجمهور ، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام{[3447]} من قوله : { الرضاعة من المجاعة } {[3448]} ، ونحو ذلك من الأحاديث . واختلف في لبن الميتة هل يحرم أم لا ؟ على قولين{[3449]} : ومن حجة من لا يراه{[3450]} يحرم قوله تعالى : { أرضعناكم } وهذه{[3451]} لم ترضع . ويدخل في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } الأمهات{[3452]} وإن علون . وفي قوله : { وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم } كل من الربائب عليها ولادة . وفي قوله : { وحلائل أبنائكم } حلائل أبناء النسب ، وأبناء الرضاعة ، وحلائل كل من لواحد منهم عليه ولادة . وهذه الآية من قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } تقتضي تحريم الاستمتاع ، فيستوي فيه الاستمتاع بالنكاح وبملك اليمين ، لأن الله تعالى{[3453]} إنما حرم النكاح لأنه طريق إلى الاستمتاع ، وملك اليمين مثله ، إلا أن تحريم{[3454]} الاستمتاع يمنع النكاح ولا يمنع ملك اليمين ، فيمن لا تعتق منهن بالملك{[3455]} . وقوله : { وحلائل أبنائكم } لا يقتضي ذلك تحريم ما وطئه الابن بملك اليمين{[3456]} ؛ لأن لفظ الحليلة مخصوص بالمنكوحة ، لكن الإجماع اقتضى إلحاقها بها . أما قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } فلا تدخلوا مع الأختين غيرهما في ذلك الحكم بالآية ، بل إن كان فبالقياس ، كما قال بعض أصحاب مالك : إن كل / امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم يحل له أن يتزوج{[3457]} الأخرى فلا يجوز الجمع بينهما في النكاح قياسا على الأختين فيحرم{[3458]} على هذا الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها خلافا لمن لا يعتد بخلافه{[3459]} ، وهو مذهب عثمان البتي{[3460]} والخوارج . وأصح ما يعتمد عليه في هذا الباب الخبر الوارد بالنهي على الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ؛ إلا أن فيه نظرا ، لأنه زيادة على ما في النص فيختلف فيها هل هي{[3461]} نسخ أم لا ؟ فإن كانت نسخا فنسخ القرآن بأخبار الأحاد فاسد ، وإن لم يكن نسخا صح إلحاق ما في الخبر بما في الآية ، وأيضا فإن المجيزين للجمع بين المرأة وعمتها وخالتها تعلقوا بقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . ورأوا عموم الآية أولى من نص الخبر وذلك بناء منهم على أن أخبار الآحاد لا يخص{[3462]} بها عموم القرآن ، وقد اختلف فيه الأصوليون ، والصحيح جوازه . وقالت طائفة : المعتمد عليه من ذلك معنى نص القرآن بتحريم الجمع بين الأختين{[3463]} ، والمعنى في ذلك أن كل امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم يحل له نكاح الأخرى ، فلا يجوز الجمع بينهما فلذلك لم يجز الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها{[3464]} ، فعلى هذا التعليل يجوز الجمع بين ابنتي العمة والعم وابنتي الخالة والخال ، وهو قول الجمهور ، خلافا لمن منع الجمع بين كل امرأتين بينهما قربى ، وعلل ذلك بما فيه من القطيعة ، وهو قول الحسن بن أبي الحسن وجابر{[3465]} وإسحاق بن طلحة بن عبد الله{[3466]} وعطاء في رواية عنه وسنذكر ما يتعلق بهذه المسألة من المسائل إن شاء الله تعالى{[3467]} . ويدخل في قوله : { ولا تنكحوا / ما نكح آباؤكم } أباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب والرضاعة .
وقد اختلف في أمهات المرأة بماذا يحرمن هل{[3468]} بالعقد خاصة أو بالوطء مع العقد ؟ فذهب الجمهور إلى أنهن يحرمن بالعقد خاصة . وذهب علي بن أبي طالب{[3469]} وغيره إلى أنهن لا يحرمن إلا بالوطء . وجاء عن ابن عباس كلا القولين . وقال زيد بن ثابت{[3470]} : إن طلق البنت قبل الدخول تزوج الأم إن شاء الله{[3471]} ، وإن ماتت عنده قبل الدخول لم يتزوج فهذه الثلاثة أقوال . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوله : { وأمهات نسائكم } فأطلق ولم يشترط كما فعل في الربائب . وقال بعضهم : حجة لقول علي رضي الله تعالى عنه وأصحابه : قوله تعالى : { من نسائكم التي دخلتم بهن } ، شرط في هذه وفي الريبة . وهذا{[3472]} ضعيف لأن المجرورين إذا اختلف العامل فيهما لم يكن نعتهما واحدا .
واختلف أيضا في الربيبة بماذا تحرم ؟ فالجمهور أنها لا تحرم إلا بوطء الأم ، لقوله تعالى : { وربائبكم التي في حجوركم{[3473]} من نسائكم التي دخلتم بهن } فاشترط الدخول ، وشذ قوم فحرموا نكاحها بالعقد ، دخل بالأم أم لا ؟ والنص والإجماع يردان عليهم . وليس من شرط تحريم الربيبة الدخول{[3474]} بأمها أن تكون في حجر المتزوج بأمها خلافا لداود في قوله : إن لم تكن في حجره لم يحرم نكاحها . وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه{[3475]} ، وحجة من قال ذلك قوله تعالى : { وربائبكم التي في حجوركم } و{[3476]} هذا مردود ؛ لأنه تعالى إنما ذكر الأغلب من هذه الأمور ، إذ حالة الربيبة في الأكثر{[3477]} على هذا .
واختلف العلماء في معنى{[3478]} قوله تعالى : { دخلتم/ بهن } :
فقال ابن عباس وطاووس{[3479]} وابن دينار : الدخول في هذا الموضع الجماع فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء فإن ابنتها له حلال ، وإن كان قد قبل أو باشر . وقال كثير منهم مالك وعطاء وغيرهما : هو البناء عليها والتقبيل واللمس للذة{[3480]} ونحو ذلك ، وذلك كله يحرم الابنة كما يحرمه الوطء .
وقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } :
إنما قيد تعالى تحريم حلائل الأبناء بقوله : { من أصلابكم } تحليلا لحلائل الأبناء الأدعياء لا تحليلا لحلائل الأبناء من الرضاعة{[3481]} ، وكان{[3482]} عند العرب تزوج حليلة الابن الدعي كبيرا فيذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد ابن ثابت{[3483]} الذي كان تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ، فنزلت الآية . وقد سئل مالك{[3484]} عن سفر الرجل بامرأة أبيه أتراه ذا محرم ؟ فقال : قال الله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } فأتم الآية ، وقال : هؤلاء ذوو المحارم{[3485]} ، وأجاز أن يسافر بها إلا أن يكون أبوه قد طلقها وتزوجت زوجا فلا أحب ذلك ، وكرهه ، ولم يجز ابن القاسم سفره بها{[3486]} فارقها أو{[3487]} لم يفارقها . وظاهر احتجاج مالك يدل على أنه حمل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها " {[3488]} على عمومه في جميع ذوي المحارم من النسب والصهر والرضاعة ، إلا أنه كره أن يسافر بها إذا فارقها أبوه على وجه الاستحسان .
وحمل ابن القاسم{[3489]} الحديث على ذوي المحارم من نسب دون الصهر والرضاعة .
قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } :
هذا اللفظ يعم/ الجمع بينهما بالنكاح وملك اليمين ، ولا خلاف أنه لا يجوز الجمع بينهما بنكاح كما لا خلاف أيضا في جواز الجمع بينهما بالملك دون وطء . واختلف في جواز وطئها بملك اليمين{[3490]} ، فذهب قوم إلى جواز ذلك ، وإليه ذهب داود ، واستدلوا بعموم قوله تعالى في أول السورة : { أو ما ملكت أيمانكم } وقوله بعد هذا : { وأحل لكم ما وراء ذلك } . وتأولوا قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } أنه في النكاح{[3491]} . ودليلا عليهم قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } ومقتضاه{[3492]} على ما قدمنا ، الاستمتاع بالوطء والتقدير{[3493]} وأن تجمعوا بين الأختين بالوطء ، فعم الوطء{[3494]} بنكاح والوطء بملك ، وأن هذه مخصصة لتلك . وقال عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه{[3495]} : أحلتهما آية وحرمتهما آية فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا . وروي نحو هذا عن ابن عباس{[3496]} وساق بعضهم عن مالك في المسألة الكراهية{[3497]} قال : ويستقرأ ذلك من قوله : إذا وطء أحدكم ثم وطء الأخرى كف عنهما حتى يحرم أحدهما فلم يلزمه حدا . وساق عن إسحاق ابن راهويه{[3498]} التحريم ، وقال : يجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء{[3499]} ولا أدري من أين له هذا التأويل{[3500]} على إسحاق وعلى مالك . والمشهور في المذهب{[3501]} أن الجمع بينهما بوطء الملك مثل الجمع بوطء النكاح . وقد نص تعالى على تحريم الجمع ، والمخاطب بذلك من له الإمساك والوطء وإذا زال النكاح زال هذا المعنى ، فيأخذ من هذا أن الرجل إذا بانت{[3502]} منه زوجته جاز{[3503]} أن يتزوج أختها في عدتها ، ولم يكن جامعا خلافا لأبي حنيفة/ في منعه ذلك . إذا ثبت هذا بقيت على حكم قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } .
وقوله تعالى : { إلا ما قد سلف } :
استثناء منقطع معناه : لكن{[3504]} ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله{[3505]} الإسلام ، فإن الله يغفره ويحتمل أن يريد بقوله{[3506]} : { إلا ما قد سلف } جواز ما قد سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، إلا أن الشافعي ومالك رحمهما الله{[3507]} قالا : إذا تزوج الكافر أختين ثم أسلم خيّر بينهما ، سواء جمعهما في عقدة واحدة أو في عقدتين . وقال أبو حنيفة : لا يبطل{[3508]} نكاحهما إن جمعهما في عقدة{[3509]} واحدة يفارق الأخيرة{[3510]} إن فرق . والمعتمد عليه في هذه المسألة حديث فيروز الديلمي{[3511]} حين أسلم على أختين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اختر أيتهما شئت " {[3512]} ، والحديث في الترمذي{[3513]} وأبي داود ، والدارقطني{[3514]} ، ونحو ذلك من الأحاديث . وتأويل أبي حنيفة لهذا الحديث على أنه ابتداء نكاح{[3515]} واحدة منهما تأويل بعيد . وأما أخذ هذه المسألة من طريق النظر فبعيد . قال بعضهم : هي خارجة عن نظر الأئمة الثلاثة . أما وجه خروجها عن نظر مالك{[3516]} والشافعي ، فمن حيث أن الصحيح من مذهبهما أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام ، وأما وجه خروجهما عن نظر أبي حنيفة ، فمن حيث أن الكفار عنده غير مخاطبين بفروع الشريعة . قال أبو الحسن{[3517]} : لما رأى الشافعي قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } غير نص في مقصوده أراد أن يستدل بالنص فاستدل بحديث فيروز ونحوه . وإذا وقع في الإسلام الجمع بين الأختين{[3518]} بالنكاح ، فإن كان/ تزوجهما واحدة بعد واحدة ، فنكاح الثانية باطل لأنه أوقع الجمع ، وإن وقع نكاحهما في عقد واحد فسخ نكاحهما جميعا . ووجه الفسخ لما فسخ من ذلك التعلق بمقتضى الآية من النهي عن الجمع . وأما مسألة من تزوج رضيعتين أرضعتهما امرأة أجنبية فهي وزان مسألة كافر يسلم عن أختين ، فتدبر ذلك .