24 قوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } :
اختلف في تأويله ، فقال ابن عباس والزهري{[3519]} وغيرهما : المحصنات{[3520]} ذات الأزواج وما ملكت الأيمان السبايا ذوات الأزواج . روى أبو سعيد{[3521]} أن سبب{[3522]} الآية{[3523]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس ، فلقوا عدوا وأصابوا سبيا{[3524]} من أزواج المشركين{[3525]} فتأثم المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة . وبهذا{[3526]} القول في الآية يحتج{[3527]} من يرى أن السبي يهدم النكاح ، سبيا جميعا أو متفرقين ، وهو قول ابن القاسم وأشهب . وكذلك على مذهبهما إذا سبي أحدهما قبل صاحبه ، ثم أتى الآخر بأمان . وأما إذا أتى أحدهما أولا بأمان ثم سبي الثاني فلا ينهدم النكاح ، وفي المسألة أربعة أقوال : أحدها : ما ذكرته ويعضده تأويل الآية كما قدمته . والثاني : أن السبي مبيح فسخ النكاح إلا أن يقدم أحدهما قبل صاحبه بأمان ، وإلى هذا ذهب{[3528]} ابن حبيب{[3529]} ، وعليه تأتي رواية عيسى{[3530]} عن ابن القاسم . والثالث : أن السبي لا يهدم النكاح ، سبيا جميعا أو متفرقين ، وهو قول ابن المواز . والرابع : الفرق بين أن تسبى هي قبله{[3531]} ، أو{[3532]} يسبى هو قبلها أو معها{[3533]} فيستحي{[3534]} ، وهو قول ابن بكير{[3535]} في " الأحكام " . وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وغيرهما : المحصنات ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن ، وأنهن ملكن حل وطئهن . فرأوا أن/ بيع الأمة أو وراثتها أو هبتها أو الصدقة بها تطليق لها من الزوج ، وظن هؤلاء أن الآية عامة ، ولم ينظروا إلى خصوص السبب الذي وردت فيه . وجمهور العلماء على أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا ، وقصروا الآية على سببها في سبي أهل الحرب ، وأن لا طلاق لها إلا الطلاق . وقال عمر{[3536]} وأبو العالية{[3537]} وغيرهما وروي نحوه عن ابن عباس{[3538]} : المحصنات العفائف أي كل النساء حرام وألبسن اسم الإحصان إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك . وما ملكت الأيمان معناه : بنكاح أو شراء وعلى هذا تأول بعضهم قول مالك في " الموطأ " وهن{[3539]} ذوات الأزواج ، وهو تأويل بعيد ، وهذا القول{[3540]} يرجع إلى تحريم الزنا{[3541]} . وقال{[3542]} غيره : فيما ذكر الطبري{[3543]} عنه : المحصنات الحرائر وما ملكت الأيمان معناه بنكاح منهن والاستثناء متصل ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا ، وقال بعضهم : وحرم عليكم{[3544]} المحصنات إلا ما ملكت أيمانكم ، يعني : الأزواج ، فحرم ما فوق الأربعة ، فهذه خمسة أقوال في الآية .
والإحصان في القرآن يكون إما بالإسلام وإما بالحرية ، وإما بالعفاف وإما بالتزويج ، وأصله المنع وهو يكون بالوجوه الأربعة . ويروى أن رجلا قال لسعيد ابن جبير{[3545]} : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم{[3546]} يقل فيها شيئا . قال سعيد ابن جبير{[3547]} : كان ابن عباس لا يعلمها{[3548]} وذكر عن مجاهد أنه قال : " لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل " قوله : { والمحصنات } إلى قوله : { حكيم } .
قوله تعالى : { كتاب الله عليكم } :
قال عبيدة السلماني{[3549]} وغيره : هذه إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : { مثنى وثلاث ورباع } ، وفي هذا بعد . وقيل : هذا{[3550]} / يرجع إلى جميع المحرمات المذكورات قبل ، والأظهر أنه إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله .
وقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } :
اختلف في تأويله ، فقال السدي : المعنى : وأحل لكم ما وراء من{[3551]} حرم من سائر القرابة ، فهن حلال{[3552]} لكم تزويجهن . وقال قتادة : المعنى : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء{[3553]} وقال بعضهم : لفظ الآية يعم جميع الأقوال ويجوز الجمع بين المرأة وبين امرأة أبيها ، خلافا لبعضهم في كراهة ذلك{[3554]} ولابن أبي ليلى في منعه ، لأن{[3555]} الله تعالى ذكر جميع المحرمات ولم يذكر منهن من{[3556]} وقع الكلام فيه . ثم قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ، فالجمع بينهما مباح بظاهر{[3557]} القرآن ؛ إلا أن يأتي في السنة ما يخصصه ولم يأت ذلك . ومن{[3558]} لم يجز ذلك ، تعلق بالمعنى الذي ذكر من{[3559]} تحريم الجمع بين الأختين ، وأن معناه : الجمع بين كل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له نكاح الأخرى ، قال : فكذلك المرأة وامرأة أبيها وقد انفصل من علل بذلك عن هذا الاعتراض بانفصالين ، فحكي عن سفيان أنه قال : معنى ذلك عندنا أن يكونا من نسب . وقال بعض المتأخرين : إنما جاز الجمع بين المرأة وامرأة أبيها ، وإن عللنا بما تقدم ؛ لأن المرأة لو كانت رجلا يحل له نكاح الأخرى . والبنت لو كانت رجلا لم يحل له نكاح المرأة لأنها امرأة أبيه ، وقد أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يتزوج ما ولدت امرأة أبيه{[3560]} . واختلفوا{[3561]} هل يجوز{[3562]} له أن يتزوج ما ولدت بعد أبيه على{[3563]} ثلاثة أقوال ، أحدها : أن ذلك جائز ، وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن ابن القاسم . والثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو قول ابن القاسم الآخر{[3564]} . والثالث : أن ذلك مكروه ، وهو قول طاووس . والحجة/ لجواز ذلك قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } .
وقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } :
لفظ يجمع التزوج والشراء ، ومقتضاه أن{[3565]} يبتغي كل واحد بمال نفسه ، وقد ظن بعضهم أن المراد بذلك أن كل واحد يبتغي{[3566]} أن يصدق ما يسمى مالا{[3567]} وظاهره أكثر من العشرة فيكون على هذا أقل الصداق عشرة دراهم ، وهو تأويل واستدلال ضعيف ، كيف وقد قال تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } {[3568]} [ البقرة : 237 ] ، وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلا كان أو كثيرا قال أبو الحسن : قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي منع عتق الأمة أن يكون صداقا لها ، خلافا لأحمد ابن حنبل لدلالة الآية على كون المهر مالا ، وليس في العتق تسليم مال{[3569]} وإنما فيه{[3570]} إسقاط الملك من غير أن تستحق{[3571]} هي تسليم مال إليها . وجوز الشافعي جعل منفعة الحر صداقا خلافا لمن لم يجوزه{[3572]} . ولا خلاف عنده في منفعة العبد ؛ لأن المنفعة عنده{[3573]} مال . وقد وردت في ذلك أخبار نصوص . والذي جاء في الحديث ، من أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتق صفية صداقها ، لا يعارض استدلالنا{[3574]} بالقرآن لاحتمال كون{[3575]} ذلك مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن النكاح بلا مهر كان له صلى الله عليه وسلم جائزا وكذلك قوله{[3576]} : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] الآية ، يدل على أن العتق لا يكون صداقا . وقد استدل بعضهم بقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } الآية على أن الصداق إذا كان خمرا أو خنزيرا فسخ النكاح{[3577]} قبل الدخول وبعده ، قال : لأن الخمر والخنزير ليسا من أموالنا ، خلافا للرواية/ الأخرى عن مالك أنه{[3578]} يفسخ{[3579]} قبل ولا يفسخ بعد ، وخلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما : إن النكاح لا يفسخ قبل ولا بعد ويثبت بصداق المثل .
وقوله تعالى : { محصنين } :
معناه : متعففين ، غير مسافحين أي غير زناة{[3580]} . قال بعضهم : فيحتمل أن يريد : " اطلبوا منافع البعض على وجه النكاح لا على وجه السفاح " ويحتمل أن يريد بقوله : { محصنين } أي تزوجوهن على شرط الإحصان{[3581]} .
قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن } الآية :
اختلف في تأويلها ، فقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة قد وجب إعطاء الأجر وهو المهر كله . ولفظة " ما " تعطي أن يسير الوطء يوجب{[3582]} إيتاء الأجر . وهذا التفسير يرد قول أبي حنيفة وأصحابه : أن الخلوة الصحيحة توجب المهر كله وطء أو لم يطأ ، ادعته المرأة أو لم تدعه ؛ لأن الخلوة دون وطء ليس باستمتاع .
وظاهر{[3583]} الآية على هذا التفسير أن المهر لا يجب إلا بالوطء ، وهو قول مالك وجميع أصحابه . وقد اختلف فيمن دخل بالزوجة وتلذذ بها ولم يطأها هل يجب لها جميع الصداق{[3584]} أو نصفه ؟ ومن حجة من يوجب لها جميعه ظاهر هذه الآية ، لأن ذلك استمتاع بها فأخذ بأقل ما يقع عليه اسم الاستمتاع . واختلف أيضا في الوطء في الدبر هل هو كالوطء في الفرج في استحقاق جميع الصداق أم لا ؟ وكذلك اختلف{[3585]} في البكر إذا أذهب الرجل{[3586]} عذريتها بأصبعه ولم يطأها ، هل هو كالوطء في وجوب{[3587]} الصداق أم لا ؟ وكذلك اختلف{[3588]} في المجبوب والحصور{[3589]} وما أشبه / ذلك{[3590]} ممن لا يصل إلى الجماع هل يجب عليه جميع الصداق إذا لم تطل مدة إقامته{[3591]} أم لا ؟ ولم ير{[3592]} في ذلك كله إلا نصف الصداق وحمل هذه الآية على الوطء . ونص قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } [ البقرة : 237 ] ، يدل على أنه إنما لها النصف . وقد استدل بعضهم بهذه الآية على أن الصداق إنما يجب جميعه بالدخول ، خلافا لمن يقول : يجب{[3593]} بالعقد وجوبا غير مستقر ولمن يقول : يجب بالعقد ويسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول{[3594]} ولمن يقول : يجب نصفه بالعقد ونصفه الثاني بالدخول والاستمتاع ، وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن } أي ما{[3595]} نكحتموه منهن فأتوهن مهورهن فإن استمتع بالدخول بها أعطى المهر كله . وإن استمتع بعقد{[3596]} النكاح أعطى نصف المهر . والمتاع في اللغة ما انتفع به ، فعلى هذا القول الاستمتاع يقع على الوطء والعقد . وقال ابن عباس ومجاهد أيضا وغيرهما : أن المراد بآية المتعة التي كانت{[3597]} مباحة في أول الإسلام . وقرأ ابن عباس وأُبيّ ، وابن جبير : { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجورهن } ، وقال ابن عباس لأبي بالبصرة : هكذا أنزلها الله{[3598]} عز وجل . والذين ذهبوا إلى التأويل اختلفوا في الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فذهب قوم أكثرهم الشيعة إلى أنها محكمة وأن نكاح المتعة جائز ، وروي ذلك عن ابن عباس . وقال علي : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلا شقي . وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة على ذلك التأويل/ وأن نكاح المتعة اليوم باطل ، وروي عن ابن عباس الرجوع عنه{[3599]} وروي عنه أنه لما بلغه قول الشاعر :
قال المحدث لما طال مجلسنا *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس {[3600]}
في بضة{[3601]} رخصة الأطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس .
قال علي زمزم ، فقال : من عرفني فقد عرفني{[3602]} ، ومن لم يعرفني فأنا ابن عباس ، ألا إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير . واختلفوا في الناسخ لها{[3603]} على أربعة أقوال : فذهب قوم إلى أن الناسخ لها السنة بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمها ، وذهب قوم إلى أن الناسخ لها القرآن قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ، وروي هذا عن ابن عباس . وذهب قوم إلى أن الذي نسخها من القرآن آية الميراث ، لأن المتعة لا ميراث فيها . وقال قوم : نسخها من القرآن قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم } الآية [ المؤمنون : 5 – 6 ] ، قالوا : ولا زوجة مع الأجل . قال ابن مسعود : نسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث . واختلف في المتعة كيف كانت ؟ قيل{[3604]} : أن يتزوج الرجل المرأة{[3605]} بشاهدين{[3606]} وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإن{[3607]} انقضت المدة فليس عليها سبيل ويستبرئ رحمها{[3608]} ؛ لأن الولد لاحق به{[3609]} فإن لم تحمل حلت لغيره ، وفي كتاب ابن{[3610]} النحاس ما يوهم أن الولد كان لا يلحق{[3611]} في نكاح المتعة وهو خطأ . وقيل : إن نكاح المتعة/ بلا ولي{[3612]} ولا شهود . وروي عن ابن المسيب : ولم يختلف السلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه ، والفرقة تقع فيه عند انقضاء الأجل من غير طلاق والاستبراء فيه حيضة . قال{[3613]} ابن عباس : واختلف إذا تزوجها بغير شرط أجل{[3614]} إلا أن نية الزوج أن يحبسها شهرا ثم يطلقها هل هي متعة أم لا ؟ فالجمهور على أنه لا بأس بذلك وليس بمتعة{[3615]} . وقال الأوزاعي : هي متعة ولا خير فيه ، وقراءة من قرأ إلى أجل مسمى يرد هذا القول .
وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم } الآية :
اختلف في تأويله ، فقال الذاهبون إلى أن الآية المتقدمة في إيتاء مهور النساء إذا وطئن ، المعنى : رفع الحرج عن{[3616]} التراضي بالتأخير والحظ{[3617]} بعد ثبوت الفريضة . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى : لا إثم عليكم في أن تهب المرأة مهرها أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إلا لمن دخل بها . قال أبو الحسن{[3618]} : واستدل قوم بهذه الآية على جواز الزيادة ، وذلك غلط ؛ فإن الآية ما وردت في موضع الزيادة فإنه لما قال : { فآتوهن أجورهن فريضة } اقتضى ذلك إعطاءها ما فرض لها أولا .
فقوله{[3619]} : { ولا جناح عليكم } :
يرجع إلى أن الرخصة في ترك الإيتاء بعد الأمر بالإيتاء ، فإن قيل : فقد قال : { فيما تراضيتم به } ، والإبراء من المهر يجوز أن يقع من المرأة وذلك لا يتوقف على تراضيهما{[3620]} فالجواب{[3621]} : أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح لا يتوقف على التراضي ، فالهبة موقوفة على ذلك . والإبراء وإن لم يقف{[3622]} على التراضي في أحد الوجهين{[3623]}/ لأصحابنا فالمعلوم{[3624]} من العرف أن ذلك يجري بتراضيهما . وقال الذاهبون إلى أن الآية في المتعة : المعنى أنما تراضيتم عليه من زيادة في مدة المتعة أو زيادة في الأجر جائز .
واختلف في المرأة تتزوج الرجل بدين عليه أو بشيء حال هل يجوز أن تراضيه على الدخول دون شيء يدفعه إليها من الصداق أم لا ؟ فأجازه جماعة ، واحتجوا بقوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به من بعد الفريضة } على التأويل الأول{[3625]} ، وكرهه مالك ومن تابعه{[3626]} .