22 - قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية إلى قوله { فما استمتعتم } :
سبب هذه الآية أن العرب كانت منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل منهم على امرأة أبيه على ما ذكرنا من أمر أبي عمرو ابن أمية وابن الأسلت{[3339]} ، ومن ذلك صفوان بن أمية ابن خلف{[3340]} تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن عبد المطلب بن الأسد{[3341]} ، وكانت امرأة أبيه أمية فقتل عنها ، ومن ذلك منظور ابن زبان{[3342]} خلف على امرأة أبيه ريان وكانت مليكة بنت خارجة إلى كثير من هذا ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة{[3343]} تمجس{[3344]} وفعل هذه{[3345]} الفعلة ، وقال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية .
وقوله تعالى : { ما نكح آباؤكم من النساء } : اختلف في تأويله ، فقالت فرقة : يراد به النساء ، أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم ، ف " ما " على هذا القول واقعة على من يعقل ، وإنما جاز ذلك لأنه إنما أريد به نوع النساء ، و " ما " تقع على الأنواع مما يعقل ، والذين ذهبوا إلى هذا القول مختلفون في قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } فقيل : معناه إلا ما قد سلف فدعوه . وقيل : لكن ما سلف فهو معفوّ عنه لمن كان{[3346]} واقعه فكأنه قال : ولا تفعلوا حاشي ما قد سلف ، وهذا{[3347]} استثناء منقطع/ . قال أبو الحسن : في هذه الآية دلالة ظاهرة للشافعي في أن من تزوج امرأة أبيه ثم وطءها مع العلم بالنهي والتحريم أنه زان ، لأنه تعالى قال : { كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } فذكر في نكاح امرأة الأب مثل ذلك . وقال ابن زيد : المعنى إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء{[3348]} لا على وجه المناكحة ، فذلك جائز لكم زواجهن في الإسلام ، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا ، فالاستثناء على هذا متصل .
وقالت فرقة : ما نكح يراد به نكاح الآباء أي نكاحا مثل نكاحهم أو لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة . واختلف أيضا في تأويل الاستثناء فقيل : معناه إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة ، فأباح لكم الإقامة عليها في الإسلام إذا كان مما يقر الإسلام عليه من جهة القرابة ويجوزه الشرع كما لو ابتدئ نكاحه في الإسلام على سنته . وقيل : المعنى إلا ما قد سلف فهو معفو عنكم .
وقوله تعالى : { إنه كان فاحشة } قال المبرد{[3349]} : كان هنا زائدة ، قال الزجاج{[3350]} : لو كانت زائدة لكانت فاحشة مرفوعة . وقال بعضهم : كان في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل . والصحيح في ذلك ما قاله الزجاج وغيره من أن " " كان " إنما أريد بها هنا الماضي ، لأن الله تعالى إنما أخبر أن الذي حرمه علينا كان في الجاهلية مستقبحا يسمونه فاحشة ومقتا . قال أبو عبيدة{[3351]} وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المفتي . واختلف في الزنا هل تثبت به حرمة المصاهرة/ أم لا ؟ فعن مالك في ذلك روايتان ، وقول أبي حنيفة : أنه تثبت . وقول الشافعي : أنه لا تثبت . ووجه إثباتها قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فعم . قال بعض من احتج بهذا القول : أن النكاح{[3352]} في{[3353]} اللغة عبارة عن الجمع والضم وهو أظهر في الوطء منه في العقد . فتقديره : ولا تطؤوا ما وطء آباؤكم من النساء . فدل هذا على أن التحريم متعلق بصورة الوطء . وأجاب عن هذا من نصر القول بأنه لا يثبت به حرمة المصاهرة ، بأن قال : الصفة{[3354]} إذا أطلقت في الشرع دون عرف في اللغة وعرف في الشرع وجب حملها على عرف الشرع دون عرف اللغة كالصوم والصلاة والزكاة ونحو ذلك . وعرف الشرع في لفظ النكاح : العقد . قال تعالى : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ الأحزاب : 49 ] . وقال عليه الصلاة والسلام{[3355]} : " لا نكاح إلا بولي " {[3356]} إلى غير ذلك من الآيات والأخبار المراد بها العقد ، ولهذا لو قال لامرأة : إن نكحتك فأنت طالق ، فإنه يقع الطلاق بنفس العقد . وإذا صح أن المراد به في الشرع العقد وجب حمله عليه عند الإطلاق . وقال أبو بكر الرازي{[3357]} أنا أسلم أن المراد به العقد إذا أطلق إلا إذا كانت قرينة هناك تصرفه عن العقد إلى الوطء . وفي هذا المقام قرائن دالة على أن المراد به الوطء ، ومن ذلك ما ذكره المفسرون أن الآية إنما نزلت في العرب وذلك أنها كانت تخلف آباءها في نسائهم ، وإنما كانت تخلفهم في الوطء لأنهم ما{[3358]} كانوا يجدون عقدا . ولهذا قال : { إلا ما قد سلف } أي فإنه معفو/ ولا إثم فيه{[3359]} ، ولهذا سماه فاحشة{[3360]} ولهذا حرم نكاح{[3361]} موطوءة الأب بملك اليمين بحكم هذه الآية ولا نكاح هناك . قال{[3362]} : ولا يمكن ادعاء العموم في مسميات مختلفة المعاني بعضها مجاز وبعضها حقيقة . يريد أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى : { ولا تنكحوا } الآية على العموم في العقد والوطء ، لأنه حقيق في العقد مجاز في الوطء . وهذا قول أكثر الأصوليين ، فأجاب عن هذا من نصر القول الآخر ، بأن قال : الآية من أولها إلى آخرها إنما دلت على الوطء في العقد ، ولهذا قال : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } [ النساء : 20 ] ، وقال{[3363]} : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } [ النساء : 23 ] إلى آخر الآية ، ولم يجر للزنا فيه ذكر فكيف يحمل النكاح على ما لم يجر له في الآية ذكر . والآية إنما وردت في النكاح لا في الزنا ، فلتحمل عليه ، وكيف لا ! وقد قال{[3364]} : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ، فقيد ذلك بالصلب . فذكر الله عز وجل في هذا المقام حليلة الابن وتعرض لها ، فكيف يعرض عن حليلة الأب ولا ذكر لها إلا في قوله عز وجل : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ، فثبت بهذا أن الآية صيغت لبيان حكم النكاح . وأما لبيان حكم الزنا فلا . ثم كلام الشرع إنما يجوز حمله على ما لو صرح به كان{[3365]} الكلام منتظما جاريا على وجه الاستقامة ، ولا شك أنه تعالى لو قال : " ولا تزنوا{[3366]} بما زنى به آباؤكم " كان ذلك شنيعا ، فإن تخصيص ذلك بالأب مما لا وجه له ، إذ الزنى محرم على الإطلاق . وهذا الجواب غير لازم ، فإن القائل بالتحريم بالزنا لا يحمل النكاح على وطء النسب فحسب ، بل يحمله/ على كل وطء بالعموم ، فيندرج تحته الوطء{[3367]} الحلال والحرام ، فلا بشاعة في ذلك .
واختلف القائلون بأن وطء الزنا محرم في اللمس{[3368]} والقبلة والنظرة إذا كان ذلك كله للشهوة ، فجعله الحنفية مثل الجماع في التحريم قياسا عليه ، وخالفهم غيرهم فيه . وفي المذهب قولان .
واختلف أيضا في الوطء بوجه{[3369]} شبهة ، هل يحرم أم لا ؟ كمن وقع على ابنته بالليل وظنها امرأته ، فالمشهور أنه وطء بموجب الحرمة كالوطء الصحيح الذي لا شبهة فيه . وحكي عن سحنون{[3370]} أنه لا يوجب حرمة فلا تحرم أم ابنته عليه .
وقد أجمع الفقهاء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، كان مع العقد وطء أو لم يكن ، واختلف إذا كان العقد مختلفا في فساده هل يقع به تحريم{[3371]} ؟ فالمشهور أن التحريم يقع به حملا على العقد الذي لم يختلف في صحته . والآية إذا حملت على العقد كانت عامة في كل عقد ، إلا أنه إنما ينبغي أن تحمل على العقد الشرعي .