31 - قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية :
اختلف أهل التأويل في الكبائر التي وعد الله تعالى عباده باجتنابها تكفير سيئاتهم ؟ فقال بعضهم : هي ما تقدم الله تعالى إلى عباده بالنهي عنه من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية ، وهذا قول ابن مسعود والنخعي . وقال قوم : الكبائر سبع ، روي{[3784]} هذا عن علي{[3785]} وعبيد{[3786]} ابن عمير وغيره . قال عبيد{[3787]} ابن عمير : ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } [ الحج : 31 ] ، { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } [ النساء : 93 ] ، { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] ، { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] ، { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة } [ النور : 23 ] ، و " الفرار من الزحف " : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] الآية . والسابعة : التعرب{[3788]} بعد الهجرة { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } [ محمد : 25 ] الآية . وفي البخاري{[3789]} عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا السبع الموبيقات : الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات " {[3790]} ، وقال قوم : هي : {[3791]} تسع ، روي هذا عن ابن عمر{[3792]} ، وزاد على ما قاله على السحر{[3793]} والإلحاد في المسجد الحرام . وقال قوم : هي أربع{[3794]} ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود : الإشراك بالله{[3795]} ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله . وروي عن ابن مسعود أيضا أنها ثلاث : القنوط والإياس والأمن من مكر الله{[3796]} . وأحصى بعضهم ما جاء في القرآن{[3797]} والحديث من الكبائر{[3798]} فكانت إحدى وثلاثين وتضمنت جميع الأقوال المتقدمة : الشرك ، وقتل النفس ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وأن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك{[3799]} ، والزنا ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنات ، والسرقة ، وشرب الخمر ، والنميمة ، والإضرار في الوصية ، والقنوط من رحمة الله ، ومنع ابن السبيل الماء ، والإلحاد في المسجد الحرام{[3800]} ، والذي يستسب لوالديه{[3801]} ، ومنعا وهات ، ووأد البنات ، والنميمة وترك التحرز من البول ، والغلول ، واستطالة الرجل في العرض{[3802]} ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه " {[3803]} ، والربا{[3804]} من الكبائر ، وسرقة الصلاة{[3805]} من الكبائر{[3806]} ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته " {[3807]} والسرقة من الكبائر والجور في الحكم . قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } {[3808]} [ المائدة : 47 ] ، والأمن من مكر الله والتعرب{[3809]} بعد الهجرة . وهذه الأقوال المتقدمة هي أقوال من ذهب في الكبائر إلى حصرها{[3810]} . والصواب في ذلك قول من ذهب إلى أنها لا تنحصر . قيل لابن عباس : الكبائر سبع : قال : هي إلى السبعين أقرب ، وفي رواية أخرى عنه : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار{[3811]} . والذين لم يروا حصرها اختلفوا في رسمها فروي عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا : الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى{[3812]} بنار أو غضب أو لعنة . وقال قوم : كل ما نهى الله تعالى{[3813]} عنه فهو كبيرة . وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ، وقالت الأشعرية : كل ما عصى الله تعالى فيه{[3814]} كبيرة{[3815]} . وعلى قول غير الأشعرية : من الذنوب كبائر وصغائر ، وعلى قول الأشعرية : الذنوب كلها كبائر{[3816]} لأنه ما من ذنب يرتكبه{[3817]} أحد إلا وهو عاص لله تعالى به ، فمعاصي الله تعالى كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغائر بالإضافة{[3818]} إلى ما هو أكبر منها{[3819]} ، وحجة القول الأول أن الله تعالى قد ميز بين الكبائر وما سماه سيئات بقوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } {[3820]} : {[3821]} [ النساء : 31 ] الآية ، فأخبر أن السيئات يكفرها اجتناب الكبائر إذا كانت الذنوب كلها كبائر ، فأي شيء يكفر{[3822]} بعد اجتنابها ، فإذا لا بد أن تكون ثم ذنوب/ تغفر باجتناب الكبائر ، ولا تكون تلك إلا الصغائر ، فثم إذا كبائر{[3823]} وصغائر . وقد اختلفوا هل تغفر الصغائر باجتناب الكبائر أم لا ؟ فذهب عامة الفقهاء وجماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر قطعا ، وذهب{[3824]} الأشعرية إلى أنه لا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر قطعا وهذا مبني على أصله من أن الذنوب كلها كبائر ، فسووا بين الذنوب كلها ، وجعلوا مرتكب شيء منها في المشيئة إلا الكفر ؛ لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 42 ] ، واحتجوا بقراءة من قرأ : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر } {[3825]} على التوحيد يعنون الشرك . وقال الفرّاء : من قرأ كبائر فالمراد به كبير وأكبر الإثم الشرك ، وقد يأتي لفظ الجمع يراد به الواحد{[3826]} قال تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } [ الشعراء : 105 ] ، ولم يأتهم إلا نوح عليهم السلام{[3827]} وحده . وقال بعضهم : الكبائر هنا جاءت على الجمع ؛ لأن المراد بها جميع أنواع الشرك التي لا تصلح{[3828]} معها الأعمال . قالوا : لجواز{[3829]} العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ حيث بلغت ، يكتب الله تعالى له بها سخطه إلى يوم القيامة " {[3830]} ، وحجة الفقهاء وأهل التأويل ظاهر قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ، قالوا : معناه نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتناب الكبائر صغائر سيئاتكم ، لأن الله تعالى قد وعد مجتنبها تكفير ما عداها من سيئاته ، ولا يخلف الميعاد .
وقوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } الآية :
واختلف في سبب نزولها ، فقيل : قول النساء : جعل الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين هلا جعلت أنصباؤنا كأنصاب{[3831]} الرجال ؟ وقول الرجال : إنا لنرجو أن نفضل{[3832]} بحسناتنا على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث . وقيل : قالت أم سلمة{[3833]} للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله فضل الرجال على النساء في الغزو{[3834]} والميراث ، فنزلت الآية{[3835]} وقيل : قال النساء : للرجال لهم{[3836]} نصيبان من الذنوب كما لهم نصيبان من الميراث{[3837]} فنزلت الآية{[3838]} . وفي مقتضى ما ذكر من هذه الأسباب حسد النساء للرجال فيما خصهم الله{[3839]} به من زيادة الميراث والغزو . وقد روي في القول الأول : أنهن تمنين ذلك فنزلت الآية نهيا عن كل تمن بخلاف حكم شرعي . ويدخل في النهي أن ينتمي الرجال حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر ، وهذا هو الحسد . واختلف في تمني حال الرجل من غير أن يزول حاله{[3840]} وهو الغبطة . هل يدخل في النهي فلا يجوز أم ليس بداخل في النهي{[3841]} فيجوز ؟ فكرهه قوم ورأوا النهي مشتملا عليه وأجازه آخرون ؛ واحتجوا لجوازه وخروجه عن النهي بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا حسدت فلا تبغ } {[3842]} ، أي لا تتمنى زوال ما بصاحبك من نعمة لتنصرف{[3843]} إليك . قال بعضهم : وهذا في نعم الدنيا . وأما في الأعمال الصالحات{[3844]} ، فذلك من الحسن ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا حسد إلا في اثنين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلاكته في الحق{[3845]} ، ورجل آتاه{[3846]} الله علما . . . } {[3847]} الحديث . وأما تمني الرجل شيئا من غير أن يقرن أمنيته بأحد فجائز أيضا ؛ لقوله تعالى{[3848]} : { وسئلوا الله من فضله } [ النساء : 32 ] ، ومما يدخل تحت المنهي عنه{[3849]} خطبة الرجل على خطبة أخيه ؟