33 - وقوله تعالى : { ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون } الآية{[3850]} :
قوله عزّ وجلّ : { ولكل } تقديره في قول قوم : ولكل واحد ، وفي قول قوم آخرين : ولكل شيء ، يعنون التركة . والمولى في كلام العرب لفظ مشترك ، وأصله من ولي الشيء يليه ، فسمي المعتق مولى وسمي المعتق مولى . ويقال : المولى الأعلى ، والمولى الأسفل . ويسمى الناصر مولى ، وقد قال تعالى{[3851]} : { وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] . ويسمى ابن العم : مولى ويسمى الجار مولى . وقد بسط المتكلّمون أقوالهم في هذا في الرد على الإمامية عند احتجاجهم بقوله عليه الصلاة والسلام{[3852]} : " من كنت مولاه فعلي مولاه " {[3853]} وقد اختلف في{[3854]} المراد به في هذه الآية ، فقيل : العصبة ، وقيل : الورثة ، وقيل : بنو العم{[3855]} ، وقيل : هم{[3856]} الأقرباء ، منهم الأب والأخ . قال ابن الحسن : وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أبقت السهام فلأولى عصبة{[3857]} ذكر " ، يدل على أن المراد بقوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي } الآية : العصبة من العصبات{[3858]} المولى{[3859]} الأعلى لا الأسفل على قول أكثر العلماء . وحكى الطحاوي{[3860]} عن الحسن ابن زياد{[3861]} أن المولى{[3862]} الأسفل يرث من{[3863]} الأعلى ؛ واحتج فيه{[3864]} بما روى أن رجلا أعتق{[3865]} عبدا له ، فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق{[3866]} ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق{[3867]} . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث ، فوجب القول به . وعلى قول الطحاوي هذا يلزم{[3868]} أن يكون المولى الأسفل داخلا تحت عموم الآية ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أبقت الفرائض فللأولى عصبة ذكر " يدل على اشتراطه{[3869]} القرابة مع الولاية ، فلا معنى لهذا القول .
قال أبو الحسن : والذي يحسن{[3870]} من معانيه هنا أن يكون الموالي الورثة ؛ لأنها تصلح{[3871]} على{[3872]} تأويل : " ولكل شيء{[3873]} " . وبذلك فسره ابن عباس وغيره : ومما{[3874]} على تأويل ولكل شيء في موضع الصفة لشيء .
وعلى تأويل : " ولكل{[3875]} أحد " متعلق بفعل مضمر يدل عليه ما قبله ، كأنه{[3876]} قال : ولكل أحد جعلنا ورثة{[3877]} يرثون مما ترك الوالدان{[3878]} الآية . والآية{[3879]} على هذا التأويل لفظ عموم يراد به الخصوص ؛ لأنه ليس لكل إنسان ورثة معلومة ترثه . قال مالك : كل من هلك من العرب فلا يخلو أن يكون له وارث بهذه الآية ، وإن لم تعرف عليه .
وقوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } :
اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ، والذين ذهبوا إلى أنها{[3880]} منسوخة{[3881]} قالوا : نسخها قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب : 6 ] . واختلفوا في تأويل الآية المنسوخة ، فقال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة وغيرهم : هم الأحلاف ، فإن العرب كانت تتوارث{[3882]} بالحلف{[3883]} فشدد الله تعالى ذلك بهذه الآية ثم نسخه{[3884]} بآية الأنفال : { وأولوا الأرحام } الآية . وقال ابن عباس أيضا : هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم ، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ الله{[3885]} ذلك بما تقدم . وروي أن أبا بكر الصديق{[3886]} عاقد رجلا فورثه لما مات ، وقيل : إنهم كانوا يتعاقدون فيقول الرجل{[3887]} : ترثني وأرثك{[3888]} ، وتطلب بي وأطلب{[3889]} بك ، ودمي دون دمك فنزلت الآية مؤكدة لذلك ، ثم نسخت{[3890]} بقوله : { وأولوا الأرحام } الآية إلى قوله : { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } [ الأحزاب : 33 ] ، أي{[3891]} : إلا أن توصوا لهم ونسخ فرضه . وقد روي هذا{[3892]} عن ابن عباس ، والذين ذهبوا{[3893]} إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها : فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الآية محكمة على ظاهرها في الميراث وغيره ، وأن الرجلين إذا لم يكن بينهما معروف فوالى أحدهما الآخر على أن يتوارثا ويتعاقدا فإن ذلك يصح ويتوارثان ويتعاقلان{[3894]} . قالوا : ولكل واحد منهما أن يرجع عن الموالاة . وهذا يرده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3895]} : " لا حلف في الإسلام " {[3896]} ، معناه : لا حكم في الموارثة{[3897]} على ما كانت{[3898]} تفعل{[3899]} الجاهلية . وأيضا فإنهم خالفوا الآية التي يحتجون{[3900]} بها ؛ لأن الله تعالى علق فيها استحقاق النصيب بعقد اليمين وهم لا يرون اليمين{[3901]} في استحقاق الميراث شيئا ، والمعلوم من مذهب أبي حنيفة أن الميراث بالمعاقدة إنما هو عند ذوي الرحم والولاية .
وهو بعيد عن ظاهر الآية ، فإن حكم المعاقدة فيها ثابت مع وجود الموالي . وذهب الحسن{[3902]} في الآية إلى أنها{[3903]} في قوم يوصى لهم ، فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها ، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له . وهذا خلاف ما ذهب إليه مالك{[3904]} من أن الموصى له إذا مات قبل الموصي فلا شيء له ، وتبطل{[3905]} الوصية . فلم ير مالك في الآية هذا التأويل{[3906]} ، وكذلك هو بعيد عن لفظ الآية ؛ لأن المعاقدة والإيمان لا دخل لهما في الوصية . وذهب سعيد ابن المسيب{[3907]} في الآية إلى أنها من الأبناء الذين كانوا يتبنون ، قال : والنصيب الذي أمر بإتيانه{[3908]} هو الوصية لا الميراث . وهذا القول يرجع إلى الحل على الوصية ، وقال ابن عباس : هم الأحلاف ، إلا أن{[3909]} النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث ، ثم ذكر عنه{[3910]} أنه قال : كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحم{[3911]} بالأخوة التي جعلها الله بينهم في الإسلام ، فلما نزلت : { ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون } {[3912]} نسخت ذلك . ثم قرأ : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصرة والرفادة والوصلة ، وقد ذهب الميراث ، وهو قول حسن ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة " {[3913]} وقوله : " ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام ) {[3914]} ، وقد حكي عن ابن عباس أن الآية كانت عامة في الميراث والنصر والمعونة ، فنسخ منها الميراث وبقي النصر/ والمعونة .