34 - قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } الآية :
اختلف في سببها ، فقيل : سببها قول أم سلمة المتقدم ، أي لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن بوجه الفضيلة . وقيل : سببها أن سعد ابن الربيع لطم زوجه حبيبة بنت زيد ابن أبي زهير ، فجاءت مع أبيها{[3915]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت هذه الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول ، وقال : " أردت شيئا وما أراد الله خير " {[3916]} . في حديث آخر : " أردت شيئا وأراد الله غيره " ، وقد قيل : إن في هذا الحكم المردود نزلت : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علما } [ طه : 114 ] . " وقوام " : فعال بالمبالغة ، وهو من القيام على الشيء ومعناه الاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد ، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد . وتعليله تعالى ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال{[3917]} عليهن استيلاء وملكا ما . قال ابن عباس : " الرجال أمراء على النساء " . والفضيلة التي جعل الله هنا للزوج{[3918]} هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه{[3919]} .
والإنفاق : هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات ، ومقتضى هذه الآية أن الزوج{[3920]} يقوم بتدبير زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج ، وأن عليها طاعته ما لم يأمر بمعصية{[3921]} ، وجعل تعالى ذلك للزوج لأجل{[3922]} ما يجب عليه من النفقة لها ، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها وسقط عليها{[3923]} ما له من منعها من الخروج على الوجوه كلها .
واختلف : هل لها فسخ النكاح ؟ فذهب الشافعي ومالك إلى أن لها ذلك ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها وحابسا لها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح ، فكان لها الفسخ لأجل ذلك ، فنزلت الآية دلالة ظاهرة من هذا الوجه على أن لها الفسخ عند الإعسار بالنفقة والكسوة .
وفي هذه الآية دليل على أن للرجل الحجر على زوجته في نفسها ومالها ؛ لأن الله تعالى قد جعله " قواما{[3924]} " عليها ، ولم يقل قائما بل قواما مبالغة في ذلك وهو الناظر في الشيء الحافظ له إذا كان هو الناظر لها الحافظ عليها لم يجز لها هي قضاء في ذي بال من مالها إلا عن رأيه . وهذه المسألة اختلف فيها : فذهب قوم إلى أنه لا يجوز لها في شيء من مالها قل أو كثر قضاء ، إلا بإذن زوجها . وذهب قوم إلى أنه{[3925]} لها القضاء في كل شيء من مالها قل أو كثر . واحتجوا بظواهر آثار{[3926]} . وذهب مالك{[3927]} إلى أنه لا يجوز للمرأة قضاء إلا في ثلثها . واحتج بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يجوز للمرأة قضاء في ذي بال من مالها{[3928]} إلا بإذن زوجها " ، ورأى أن الثلث ليس بذي بال فأجاز تصرفها فيه ، وبين بالحديث معنى الآية . وقيل : إنما اعتبر مالك الثلث في جواز فعلها ، لأنه رأى المريض محجورا عليه من أجل ورثته ، وقد أجازت السنة له الثلث فقاسه عليه .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على أن المرأة لا يجوز أن تلي القضاء ، قال : لأنه تعالى يقول : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } ، يعني من العقل والرأي ، فلم يجز أن يضمن على الرجال ، وهذا هو مذهب الجمهور . وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز أن تقضي فيما يجوز فيه شهادتها . وشذ الطبري فأجاز قضاءها في جميع الأحكام{[3929]} ، فأما الإمامة الكبرى{[3930]} فلا خلاف أنه لا يجوز أن تليها ، والآية أيضا على الاستدلال المذكور تقتضي ذلك .
وقوله تعالى : { فالصالحات } هو الصلاح في الدين ، والقانتات : المطيعات لأزواجهن أو لله في أزواجهن وغير ذلك . وقيل : المصليات : والغيب : كل ما غاب عن علم{[3931]}الزوج . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها أسرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها{[3932]}حفظتك في مالك وفي نفسها " {[3933]} ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .
قوله تعالى : { بما حفظ الله } أي : بحفظ الله تعالى إياهن في أمورهن . وقيل : المعنى : بحفظ الله إياهن{[3934]} في وصية الأزواج بهن . وقيل : بحفظ الله مطلقا . و { تخافون } : اختلف في تأويله ، فقيل : تعلمون وتتيقنون . وذهبوا في{[3935]} ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ ، واحتجوا لذلك{[3936]} بقول أبي محجن :
ولا تدفنوني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها{[3937]}
وقيل : الخوف هنا{[3938]} على بابه من التوقع . والنشوز استعلاء المرأة على زوجها واعوجاجها عليه{[3939]} مأخوذ من نشز الأرض . وقال بعضهم : النشوز امتناع المرأة من فراش زوجها ، والخلاف له فيما يلزمها{[3940]} من طاعته . وقال ابن عباس : هو أن تستخف بطاعته وبحقه ولا تطيع أمره . وقال عطاء : النشوز أن تحب فراقه . وقيل : النشوز البغض والأصل من ذلك ما قدمناه ، واختلف في تأويل { واهجروهن } فقيل : اجتنبوا{[3941]} جماعهن . قال ابن عباس : يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ، فتكون " في " {[3942]} هنا للوعاء على بابها . وقيل : جنبوا مضاجعتهن ، قاله مجاهد . ويكون التقدير : واهجروهن في سبب المضاجع . وقيل : معناه قولوا لهن : هجرا من القول أي إغلاظا . ويقال في ذلك : هجر وأهجر . وقيل : معناه اربطوهن في المضاجع بالهجار كما يربط البعير به وهو حبل يشد به البعير{[3943]} ، فهي في معنى اضربوهن . قال الطبري : وقد أشار البخاري أن هجرانهن{[3944]} يكون في غير بيوتهن استنانا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لما فيه من الرفق بالنساء وهو قول{[3945]} مخالف للآية . قال بعضهم : وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم مقدار ذلك الهجران بإيلائه شهرا من أزواجه{[3946]} حين أسر{[3947]} إلى حفصة سرا فأفشته إلى عائشة وتظاهرتا{[3948]} عليه ، فقيل : إنه كان أصاب جاريته مرية في بيت حفصة ويومها ، وقيل : في يوم عائشة وسأل حفصة أن تكتم ذلك ، فأخبرت عائشة وقيل : إنه شرب عسلا في بيت زينب ، وذلك الهجران لا يبلغ به إيلاء{[3949]} أربعة أشهر .
وقوله تعالى : { واضربوهن } : الضرب هنا يعني به الضرب غير المبرح . قال قتادة : هو غير الشائن{[3950]} . وقال الحسن : هو غير مؤثر . وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح ، قال{[3951]} : بالشراك أو نحوه . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : " فاضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح " {[3952]} ، وهو إشارة منه{[3953]} عليه الصلاة والسلام إلى تفسير الآية . وقد اختلف{[3954]} في ضرب النساء الضرب غير المبرح فرأى قوم أن أفضل ما يتخلق به الرجال الصفح عنهن على ما صح في الخبر{[3955]} عن النبي صلى الله عليه وسلم من صبره على هجر نسائه له ولم يذكر أنه عاقبهن على ذلك . وأنكروا{[3956]} الأحاديث{[3957]} التي جاءت{[3958]} بإباحة ضربهن مثل قوله عليه الصلاة والسلام : " علق سوطك حيث تراه الخادم " {[3959]} ، وقوله : " أخف أهلك ولا ترفع عنهم{[3960]} عصاك " {[3961]} . وقالوا : لا يجوز الاحتجاج بها لولا أسانيدها{[3962]} . وذهب آخرون إلى أن أخبار الضرب صحاح ، واختلفوا في معناها فقال بعضهم : معنى ذلك أن يضرب الرجل امرأته{[3963]} إذا رأى منها ما يكره فيما تجب عليها طاعته{[3964]} فيه . واعتلوا بأن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين كانوا يفعلون ذلك . وذكروا أن ابنة علي بن أبي طالب كانت تحت عبد الله بن أبي سفيان بن{[3965]} الحارثة فربما ضربها فتجيء إلى الحسن بن علي فتشكي وقد لزق درع حرير{[3966]} بجسدها من الضرب فيقسم عليها لترجعن إلى بيت زوجها ، وذكروا أن أسماء قالت : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فكان إذا عتب على أحدنا فك عودا من الشجب{[3967]} فضربها به حتى يكسره عليها . قال عمارة : دخلت على أبي مجلز{[3968]} فدار بينه وبين امرأته كلام فرفع العصا فثبّج قدر نصف أنملة أصبعه وكان محمد بن عجلان يحدث بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترفع عصاك عن أهلك " {[3969]} فكان يشتري سوطا فيعلقه في بيته لتنظر إليه امرأته وأهله{[3970]} . وقال آخرون : بل{[3971]} ذلك أمر من النبي صلى الله عليه وسلم للرجال في أدب أهلهم ووعظهم إياهن وأنه لا يخلو من تفقدهن بما يكون لهن مانعا{[3972]} من الفساد والخلاف لأمرهم . وذلك من قول العرب : شق فلان عصا المسلمين إذا خالف إلفتهم وفرّق جماعتهم ، ومن ذلك قيل للرجل إذا أقام بالمكان واستقر فيه واجتمع إليه أمره : " قد ألقى فلان عصاه " {[3973]} ، فأما ضربها من غير{[3974]} ذنب فمحرم{[3975]} . قالوا : وقد حرم الله تعالى أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا . وقال بعضهم في معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " لا ترفع عصاك عن أهلك " {[3976]} إنما ذلك حض على ترهيب أهله في ذات الله تعالى بالضرب لئلا يرتكبن موبقة باقيا عليه عارها ، إذا كان صلى الله عليه وسلم قد جعله قيّما على أهله . والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " أما أبو جهم{[3977]} فلا يضع عصاه على عاتقه " {[3978]} . أعلمها غلظته على أهله وشدته ، فلو كان معناه لا تخلهم عن تأديبك بالوعظ والتذكير{[3979]} دون الترهيب بالضرب عند ركوبها ما لا يحل لها لم يكن لترهيبه فاطمة في أبي جهم بما وصفه معنى ؛ إذا كان الوعظ والتذكير لا يوجبان لصاحبهما ذما ، وظاهر الآية عندي أعظم ممن رأى ضربهن{[3980]} ؛ لأنه تعالى قد قال : { واضربوهن } ولا أقل من أن يكون مباحا بل لو قيل : إنه أمر ندب لكان ذلك حسنا ؛ لأن في ذلك إصلاح لهن ولو خلين وهواهن لهلكن . ولم يأمر الله تعالى في شيء من كتابه{[3981]} بالضرب صراحا إلا في ذلك وفي الحدود العظام ، فساوى معصيتهن للأزواج بمعصية أهل الكبائر ، وجعل تعالى ذلك الأزواج عليهن رفقا بالرجال ، وإنما يكره في ضربهن التعدي والإسراف ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يجلد أحدكم امرأته جلد{[3982]} العبد ثم يجامعها في آخر يوم " {[3983]} ، واختلف في جواز ضربها في الخدمة ، والقياس يوجب إذا جاز ضربها في المباضعة جاز في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف . ولا خلاف أنه إذا ضرب ضربا يؤدي إلى الهلاك أنه ضامن وحكم المؤدب والمعزر في ذلك حكم الزوج بخلاف حكم{[3984]} الصائل على الإنسان في ماله ، فإنه يجوز دفعه وإن أدى ذلك الدفع إلى هلاك الصائل . وإذا قلنا : إن للرجل أن يضرب زوجته تأديبا لها على ما جنته فضربها ثم ادعت هي أنه ضرب اعتداء ، وادعى الزوج أنه ضرب أدب{[3985]} ففي المذهب قولان في ذلك ، أحدهما : أنه محمول على الاعتداء حتى يثبت غير ذلك{[3986]} . وقيل : إنه محمول على الأدب حتى يثبت الاعتداء ، وهذا القول أليق بلفظ الآية ؛ لأن الله تعالى قد أباح الضرب للزوج ، وإذا كان كذلك فهو مصدق على أنه ضرب أدب{[3987]} ، وقد جعل الله تعالى العظة والهجر والضرب مراتب : يبدأ أولا بالأضعف وهو العظة ، ثم بأشد منه وهو الهجر ، ثم بأشد من الهجر وهو الضرب ، وإن كانت " الواو " لا تعطي رتبة ، ولكن مفهوم الغرض يعطي ذلك . وإن وقعت{[3988]} الطاعة عند إحدى هذه المراتب لم يتعد إلى سائرها .