35 - قوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما } الآية :
قال إسماعيل القاضي{[3989]} : أما أبو حنيفة وأصحابه فما عرفوا هذه الآية ، ولا تكلموا في شيء من أحكامها . وأما الشافعي فتكلم فيها بكلام السكوت أحسن منه . وذكر غيره عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه{[3990]} في الحكمين بعض كلام . ونحن نذكر إن شاء الله تعالى{[3991]} ما جاء في ذلك ، وقد اختلف أهل التأويل في الخوف هاهنا على حسب ما تقدم ولا يبعث{[3992]} الحكمان إلا مع شدة الخوف والشقاق وإباية المرأة من الرجوع إلى طاعة زوجها . واختلف في المأمور بالبعثة للحكمين{[3993]} فقال سعيد ابن جبير : الحكام إذا أعضل{[3994]} أمرهما{[3995]} عليهم وترافعا إليهم . وقال السدي : المخاطب الزوجان . وقال بعض المفسرين : إليهما تقديم الحكمين ، وهذا مذهب مالك ، والأول لربيعة وغيره . وأخطأ فيما نسب إلى مالك ؛ لأن المشهور عن مالك{[3996]} أن الإمام هو الذي يبعث الحكمين . وأجاز أن يبعثهما الزوجان ، وأجاز أيضا أن يبعثهما من يلي أمر الزوجين ، فإن حملنا الآية على هذا القول جعلنا المخاطبة بها الحكام والزوجين والولاة جميعا . وأما أن يقال : إن مذهب مالك أن المخاطب بالآية الزوجان خاصة فشيء لا نعرفه ويؤخذ من هذه{[3997]} الآية أن السلطان يبعث الحكمين في أمر الزوجين{[3998]} ، وإن لم يطلبا ذلك منه خلافا للشافعي في أحد قوليه أنه{[3999]} لا يبعثهما{[4000]} إلا السلطان برضى الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ، وهو مذهب أبي حنيفة على ما ذكر بعضهم أيضا . وللشافعي قول آخر مثل قول مالك{[4001]} أن الحكمين ينفردان بالتفريق دون رضى الزوجين إذا رأيا ذلك . واختلف فيما إلى الحكمين من النظر بين الزوجين ، فقيل : لا ينظران إلا فيما وكلهما الزوجان به ، وصرح بتقديمهما عليه . وقال أبو الحسن{[4002]} : ينظر الحكمان في الإصلاح والأخذ والإعطاء{[4003]} إلا{[4004]} في الفرقة ، وبمثله قال أبو حنيفة على ما ذكر بعضهم . قال : لأن الله تعالى لم يذكر فرقة ، وقالت فرقة : ينظر الحكمان في كل شيء ويحملان على الظالم ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق ، وهذا هو مذهب مالك وجمهور أهل العلم .
واختلف في قوله تعالى : { إن يريدا } ، من المراد بذلك ؟ فقيل : الزوجان ، وقيل : الحكمان . وخص الله{[4005]} تعالى بعثهما من الأهل{[4006]} ؛ لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر ، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة . ولم يجعلهما من جهة الزوج وحده ، ولا من جهة الزوجة وحدها{[4007]} لما يلقى القريب عند الشنآن{[4008]} من الحمية لمن هو من ناحيته . وإن لم يوجد من الأهل من يصلح لذلك بعث من الأجنبيين . وإن جعل ذلك للأجنبيين مع وجود الأهل ، فيشبه أن يقال : ينتقض{[4009]} الحكم بمخالفة النص ، ويشبه أن يقال : الحكم ماض بمنزلة ما لو تحاكما إليهما . وإن جعل السلطان النظر بين الزوجين إلى واحد هو منهما{[4010]} مثل عم أو خال جاز ذلك أيضا على مقربته مخالفة النص . ولو جعل السلطان ذلك إلى رجل واحد أجنبي منهما جاز على الأصل في الأحكام : أنه يجزئ{[4011]} في القضية رجل واحد وهو في هذا الوجه بخلاف الحكمين في الصيد ، ولا يجوز أن يوقعا من الطلاق أكثر من واحدة ، واختلف في الاثنين والثلاث . فقيل : يلزم الزوج ما أوقع عليه . وقيل : يلزم من ذلك طلقة . وقال عبد الملك : لأنهما لم يدخلا بما زاد على الواحدة صلاحا{[4012]} بل أدخلا مضرة . واختلف إذا كان الزوجان رشيدين وحكم بينهما{[4013]} غير عدل ، أو امرأة ، أو صبيا ، أو صبية{[4014]} ، هل ينقض الحكم أم لا ؟ فقال عبد الملك : " إنه منقوض " وكذلك لو حكما رجلا وهما يريان أنه{[4015]} من أهل المعرفة{[4016]} والعدالة ثم تبين غير ذلك فإنه يختلف هل/ يمضي الحكم أم لا ؟ وفي كتاب محمد بن الحكم{[4017]} ماض ، ووجه القول ينقض الحكم إن من شرط الحكمين أن يكونا عدلين ؛ لأن الله تعالى سماهما حكمين .
واختلف المتأخّرون من أشياخنا في جعل الأمينة بين الزوجين ، فقالت طائفة منهم : بإجازة ذلك ولم تر بعث الحكمين . قالت : لأنه أمر لم يحكم به من كان{[4018]} قبلنا من أئمة العدل ولكن تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن أمين معها{[4019]} . وقد ذكر مثل هذا ابن سحنون عن أبيه من قول مالك{[4020]} في النصرانية الحاضنة إذا خيف منها أن تضم إلى ناس من المسلمين{[4021]} ، وأنكرت طائفة هذا وقالوا{[4022]} : القول بالحكمين مما لا يجوز{[4023]} الحكم بغيره ، لأن الله تعالى حكم به ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جرّا ، وقد بعث عمر بن الخطاب حكمين ، وفعل ذلك علي بن أبي طلب . وآية التحكيم محكمة لا خلاف في ذلك ، وبذلك قال بن لبابة . وقال ابن القطان : لا يقضي بإسكان أمينة معهما{[4024]} ، يتعرف بها الضرر وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وأعجب من أهل بلادنا في هذه المسألة وشبيهها يقلدون مالكا في العظائم ، وإن لم يستند فيها إلى نص ويخالفونه في الدقائق ، وإن استند فيها إلى نص ولم يقنعوا بخلاف مالك في هذه المسألة حتى خالفوا فيها{[4025]} ما أمره الله تعالى به .