-وقوله تعالى : { إن بعض الظن إثم } :
قال بعضهم أي كذب ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " {[10548]} وقال بعضهم إثم مأثم . وقد اختلف في معنى قوله : { إن بعض الظن إثم } هل ذلك وإن لم يتكلم بظنه أم إنما هو إذا تكلم به ؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما هو إذا تكلم به ، قال لا يقدر على دفع الخواطر التي أشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام : " الحرام سوء الظن " {[10549]} وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " احترسوا في الناس بسوء الظن " {[10550]} . وذهب بعضهم إلى حمل الآية على ظاهرها من سوء الظن وإن لم يتكلم به وعلى ذلك يأتي قول سلمان : إني لأعد عدان قدري مخافة سوء الظن . وكان أبو العالية {[10551]} يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه . وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم والخاتم خير من سوء الظن . ومن ذلك الحديث المشهور في الرجلين اللذين مرا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع إحدى نسائه فدعاهما وأكلمهما بها وقال لهما : " خشيت أن تهلكا " {[10552]} ونحو ذلك .
وقوله تعالى : { ولا تجسسوا } :
معناه لا تبحثوا عن مخبئات أمور الناس . وقد قرئ ولا تحسسوا . واختلف في الفرق بين التحسس والتجسس . فمن الناس من لم يفرق بينهما ورآهما جميعا في الخير والشر ، ومنهم من فرق بينهما فقال التجسس في الشر والتحسس في الخير . ومنهم من قال : التجسس ما كان من وراء والتحسس الدخول والاستعلام . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنهما جميعا فقال : " ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " {[10553]} .
وقد قال زيد بن وهب{[10554]} : قيل لابن مسعود هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا . فقال : إنا نهينا عن التحسس فإن يظهر لنا أمر أخذناه منه{[10555]} .
وقوله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا } :
المعنى فيه لا يذكر أحد من صاحبه شيء يكرهه وهو فيه . وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " الغيبة أن يذكر المؤمن بما يكره " قيل يا رسول الله وإن كان حقا ؟ قال : " إذا قلت باطلا فذلك البهتان " {[10556]} قال القرطبي : وقد قال قوم من السلف إن وصف الرجل غيره بما فيه من الصفة غيبة {[10557]} . قال معاوية بن قرة {[10558]} لو مر بك أقطع فقلت ذلك الأقطع كانت منك غيبة . وعن الحسن قال ألا تخافون أن يكون قولنا حميد الطويل غيبة ؟ . وكان قتادة يكره أن يقول كعب الأحبار وسلمان الفارسي ولكن كعب المسلم وسلمان الإسلامي . وروي أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها قصيرة ، فقال صلى الله عليه وسلم اغتبتها {[10559]} وعن أبي هريرة أن رجلا قام عن النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا يا رسول الله ما أعجز فلانا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكلتم أخاكم واغتبتموه " {[10560]} . قال الطبري وإنما يكون ذلك غيبة إذا قاله على وجه الذم والغيبة للمقول فيه وهو له كفارة . وعن مثل هذا ورد النهي . وأما إذا قاله على وجه التعريف والتمييز كقولهم حميد الأرقط والأحنف بن قيس وكذلك النسبة إلى الأمهات كإسماعيل بن علية وأبو عائشة فإن ذلك بعيد في معنى الغيبة {[10561]} ويشهد لصحة ما قاله الطبري قوله عليه الصلاة والسلام : " أصدق ذو اليدين " {[10562]}يعرفه لطول يديه ، وقوله لأنس بن مالك : " يا ذا الأذنين " {[10563]} وقد قال عبد الله بن مسعود وتقول أنت ذلك يا أعور ، وقد سئل ابن المبارك {[10564]} عن الرجل يقول حميد الطويل وسليمان الأعمش وحميد الأعوج ومروان الأصفر فقال إذا أراد صفته ولم يرد غيبته فلا بأس . وسئل ابن مهدي {[10565]} عن ذلك فقال مثله قال وربما سمعت شعبة {[10566]} يقول ليحيى بن سعيد{[10567]} : يا أحول ما تقول ، يا أحول ما ترى . وهذا كله في غيبة أهل الستر من المؤمنين . فأما من جاهر بالكبائر فالجمهور على إجازة اغتيابه دون استحباب لتركه لقوله عليه الصلاة والسلام : " على الفاجر تدعون ، اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرف الناس إذا لم يذكروه " {[10568]} ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في عيينة بن حصن : " بئس أخو العشيرة " {[10569]} . وقد كف جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس واختاروا ذلك لأنفسهم ، منهم ابن المبارك وغيره . وقد سئل ابن وهب عن غيبة النصراني فقال لا لقوله تعالى : { وقولوا للناس حسنا } [ البقرة : 83 ] وهو من الناس { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا . . . . } الآية فجعل لهم هذا مثلا . وقد اعترض قوم فيما يفعله أهل الحديث من ذكر الرجل بما فيه فقالوا : كيف استجازوا هذا وهو من الغيبة وقد قال صلى الله عليه وسلم في الطيبين : " لولا غيبتهما لأعلمتكما أيهما أطيب " {[10570]} وأهل الحديث يقولون : فلان أعدل عن فلان ، وفلان غير ثقة وفلان كذاب ونحو ذلك . والجواب عن هذا أن الضرورة أباحت ذلك للحاجة في أخذ الحديث عن العدول ، فلو لم يذكروا بما فيهم لتسوهل {[10571]} في الأخذ عنهم فالتبس الصحيح بالسقيم ودخل في الشرع فساد عظيم . وكذلك أيضا التجريح ، الأكثر على جوازه وأن الحاكم يمكن المشهود عليه من تجريح الشهود . وروى أشهب وابن نافع عن مالك في القوم يشهدون ويعدلون هل يقول القاضي للمشهود عليه دونك فجرح ؟ فقال إن فيها توهينا للشهادة ولا أرى إذا كان عدلا أو عدل عنده أن يفعل ذلك . قال بعض المتأخرين وهذه قولة لم يصحبها عمل . والمشهور الجواز للضرورة إلى ذلك وأن لا يمنع لكونه غيبة وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن استشير في نكاحه : " إنه صعلوك لا مال له " {[10572]} وقال في الآخر : " إنه لا يضع عصاه من عاتقه " {[10573]} ولم يرد بذلك غيبة لما كان مستشارا في النكاح ودعت الضرورة إليه . وقد احتج مسلم لما صنع أهل الحديث في ذكر الناس بأحوالهم بقوله عليه الصلاة والسلام : " أنزلوا الناس منازلهم " {[10574]} : وحاصل هذا كله أن الآية مخصصة . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه ، كما أن الحي لا يعلم بغيبته . وعندي أن في هذه الآية دليلا على أنه لا يجوز أكل لحم ابن آدم ميتا {[10575]} لمن اضطر إليه ، وهو مذهب أصحاب مالك ، خلافا للشافعي ومن أباحه للمضطر ، لأنه تعالى ضرب به المثل في تحريم الغيبة ولم يضرب بالميتة سائر الحيوان فدل ذلك أنه في التحريم فوقها .
وقوله تعالى : { فكرهتموه } :
قيل معناه معنى الأمر أي فأكرهوه ، ودل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك : { واتقوا الله } وقيل كأنهم إذا قيل لهم : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } قالوا فخوطبوا على ذلك ، فقيل لهم { فكرهتموه } . ويعد هذا الكلام مقدر تقديره فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا العطف قوله تعالى : { واتقوا الله } .