38- قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله } إلى قوله : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } :
اختلف في هذه الآية هل هي{[6411]} عامة أو مجملة ؟
فالأكثر أنها عامة ، وذهب قوم إلى أنها مجملة ، وقال قوم : كانت عامة فخصص منها أشياء ، والعموم إذا خصص منه شيء بقي{[6412]} مجملا . وهذا غير صحيح وفي كتب الأصول الشفاء من هذا . وإذا قلنا بالعموم فإنما يجري حكم الآية على كل من يقع عليه اسم السارق إلا أن يقوم دليل على تخصيصه .
من ذلك أن ظاهر الآية يقتضي أن يقطع السارق{[6413]} كان مضطرا إلى السرقة من جوع{[6414]} يصيبه أو غير مضطر إلا{[6415]} أنه قد اتفق مالك وأصحابه أنه{[6416]} لا يقطع من سرق على تلك الحال تخصيصا له من العموم بما دلت عليه الآيات من تحليل الميتة للمضطر . ومن{[6417]} ذلك أن ظاهر الآية لا يقتضي أن السرقة يقطع فيها من حرز كانت أو غير حرز . وقد اختلف في ذلك : فأخذ قوم بهذا الظاهر وهم أهل الظاهر ، فقالوا : من سرق ربع دينار أو قيمته فعليه القطع ، سرق من حرز أو من{[6418]} غير حرز ، إذا أخذه من ملك{[6419]} مالك لم يأتمنه عليه ؛ لأن الله تعالى أمر بالقطع السارق عموما ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم المقدار الذي يقطع فيه ولم{[6420]} يبين الحرز{[6421]} .
وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على اعتبار الحرز ، وقال : " لا قطع في ثمر معلق ولا حريسة{[6422]} جبل ، فإذا أواه المراح أو الجرين{[6423]} فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن " {[6424]} ، وقالوا هذا مخصص{[6425]} لعموم الآية .
ورأى بعضهم أن الآية تدل على اعتبار الحرز ، ولا يحتاج إلى خبر{[6426]} يخصص{[6427]} به العموم ، وذلك أن الله تبارك وتعالى إنما أمر بقطع السارق ، والسرقة مأخوذ من المسارقة ، فلا يكون الرجل سارقا إلا فيما أخذ مما أخفي عنه وأحرز دونه مسارقة عن العيون وعن أهله . وأما ما أهمل بغير حرز أو ائتمن عليه ، فليس آخذه سارقا وإنما هو مختلس أو خائن لصاحبه ، فإذا اعتل بهذا في سقوط القطع عمن سرق من غير حرز ، فالعلة فيه أنه ليس بسارق ، فأمر الله تعالى بقطع يد السارق غير متناول له .
وإذا قلنا : إنه سارق وإنما أسقطنا عنه القطع بالسنة المخصصة لعموم الآية ، فأمر الله تعالى متناول له بعمومه{[6428]} ، وهذا الذي قاله بعضهم ضعيف{[6429]} ، لأن المسارقة موجودة فيمن يأخذ من غير حرز إذا أخذه من غير أن يشعر به ، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج السرقة من الحرز ؛ لأنه{[6430]} ما لم يخرجها فلم يسرقها بعد . وقال الحسن بن أبي الحسن : إنه يقطع وإن أخذ من الحرز . والقول الأول أظهر لما{[6431]} قدمناه .
ومن ذلك أن ظاهر الآية يقتضي قطع{[6432]} السارق سرق قليلا أو كثيرا . وقد اختلف في ذلك على اثني عشر قولا :
- فذهب طائفة وهم أهل الظاهر إلى إيجاب القطع في القليل والكثير على ظاهر الآية ، واحتجوا لذلك أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام{[6433]} :
" لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " {[6434]} .
- وذهب قوم إلى أنها لا تقطع في أقل من ثلاثة دراهم{[6435]} .
- وذهب قوم إلى أنها لا تقطع في أقل من أربعة دراهم .
- وذهب قوم إلى أنها لا تقطع في أقل من خمسة{[6436]} دراهم
- ومنهم من قال : لا تقطع في اقل من عشرة دراهم{[6437]}
- ومنهم من قال : لا تقطع في أقل من أربعين درهما .
- ومنهم من قال : لا تقطع في أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، وهذا قول مالك ومن تابعه ، وهو أصح الأقوال وأجراها مع ظواهر الآثار المخصصة لما يقتضيه عموم الآية .
والحديث الذي احتج به أهل الظاهر متأول{[6438]} على غير ما ر واه ، وهو يحتمل{[6439]} وجهين : إما أن يريد بالبيضة{[6440]} بيضة الحديد ، وبالحبل{[6441]} حبل السفينة . وإما أن يريد بقوله ذلك التحقير والتقليل{[6442]} لسرقة السارق وإن كان يسرق كثيرا{[6443]} كما قيل{[6444]} في العقيقة : " أنها تستوجب ولو بعصفور{[6445]} " ، وهذا كثير في كلام العرب .
واختلف في الذمي والعبد يسرقان هل يقطعان أم لا ؟ فالجمهور على أنهما يقطعان . وذهب بعضهم{[6446]} إلى أنهما لا يقطعان . وقال بعضهم : العبد الآبق لا يقطع خاصة . والحجة لقول الجمهور عموم الآية ، فمن ادعى التخصيص فعليه الدليل ، وقد اختلف في المختلس هل يقطع أم لا ؟ والأكثر على أنه لا يقطع ، لأنه ليس بسارق ، والله تعالى إنما أمر بقطع السارق خاصة . قال أبو{[6447]} عمر بن عبد البر : ولا أعلم أحدا أوجب في الخلسة{[6448]} القطع إلا إياس بن معاوية .
واختلف أيضا فيمن استعار شيئا فحجزه{[6449]} هل يقطع أم لا ؟ والأكثر على أنه لا يقطع لأنه أيضا ليس بسارق ، ولا يجب القطع إلا على سارق{[6450]} . وأما حديث المخزومية{[6451]} التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6452]} بقطعها فقد اضطربت الأحاديث في أمرها ففي بعضها أنها سرقت ، وفي بعضها يسقط{[6453]} ذلك ، فلا حجة{[6454]} فيه .
واختلف في نبّاش القبور ، فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يقطع{[6455]} ، وذهب مالك إلى أنه يقطع لأنه سارق ، وقد قال الله تعالى : { والسارق والسارقة } الآية{[6456]} . وقال أبو عمر بن عبد البر : احتج{[6457]} من رأى القطع بقول الله تعالى : { ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا } [ المرسلات : 25 ، 26 ] ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم{[6458]} سمى القبر بيتا ، وليس في هذا كله ما يوجب تسليم القطع{[6459]} وقد روي عن ربيعة بن عبد الرحمان أن النباش كالمحارب ، وروي عن عبد الله{[6460]} بن زياد أنه صلب نباشا ، وليس في ابن زياد أسوة ولا أبيه قبله . واختلف فيما يوجب فيه القطع من الأموال التي تتمول ويحل بيعها فذهب أبو حنيفة إلى أنه يقطع فيها إلا{[6461]} فيما يسرع إليه الفساد{[6462]} منها يريد الطعام . وذهب الشافعي إلى أنه يقطع أيضا{[6463]} فيها كلها إلا فيما كان منها{[6464]} مباح الأكل كالماء{[6465]} ، والحطب والكلأ . وذهب مالك{[6466]} رحمه الله تعالى{[6467]} ومن تابعه إلى أنه يقطع فيها كلها سواء كان مما{[6468]} يسرع إليه الفساد أم لا ، وسواء كان مباح الأكل أم لا . وحجة مالك رحمه الله تعالى{[6469]} عموم الآية : { والسارق والسارقة } الآية ، فلا يخص شيء منه{[6470]} إلا بدليل لا يعارضه دليل أولى منه .
واختلف فيمن سرق خمر الذمي ، فذهب مالك رحمه الله تعالى{[6471]} ومن تابعه إلى أنه لا يقطع وعليه القيمة . وذهب عبد الملك إلى أنه لا يقطع ولا يلزم{[6472]} فيه{[6473]} قيمة{[6474]} . وذهب عطاء إلى أنه يقطع ، وكأنه{[6475]} رأى عموم الآية يشمله .
واختلف فيمن سرق حرا صغيرا أو أعجميا كبيرا ، فعن مالك{[6476]} في قطعه{[6477]} روايتان ، وبأنه لا يقطع{[6478]} . قال الشافعي وأبو حنيفة : ولو كان على الصبي حلي فيه مائة مثقال لم يقطع . قال ابن المنذر : وهذا خلاف ظاهر كتاب الله تعالى{[6479]} ، ومن ادعى القطع في شيء من ذلك فحجته عموم الآية .
وكذلك اختلفوا فيمن سرق عبدا{[6480]} صغيرا ، فإنه لا يقطع عند أبي حنيفة . وقال الشافعي : يقطع تعلقا بعموم الآية{[6481]} . واختلفوا أيضا فيمن سرق مصحفا . فقال أبو حنيفة : لا يقطع ، وقال الشافعي : يقطع تعلقا بعموم الآية{[6482]} .
واختلفوا{[6483]} فيما يجوز ملكه دون بيعه{[6484]} هل تقطع يد سارقه أم لا ؟ كالكلب ولحم الأضحية{[6485]} . فقال أشهب : تقطع . وقال ابن القاسم وأصبغ{[6486]} : لا تقطع . وحجة من يرى القطع عموم الآية .
واختلف فيمن سرق قناديل المسجد أو شيئا من أستار الكعبة ، فعندنا أنه لا يقطع ، وهو قول أبي حنيفة . وقال بعضهم : إن سرق ليلا{[6487]} قطع وإلا لم{[6488]} يقطع . وقال الشافعي : يقطع أخذا{[6489]} بعموم الآية .
واختلف فيمن سرق من بيت المال هل يقطع أم لا ؟ على قولين فقيل : لا يقطع لأن له فيه حظا . وقيل : يقطع تعلقا بعموم الآية .
واختلف إذا سرق مالا فقطعت يده ، ثم سرق ذلك المال بعينه مرة أخرى هل تقطع رجله ؟ فقال أبو حنيفة : لا تقطع رجله{[6490]} وقال مالك : تقطع تعلقا بعموم الآية .
واختلف في العبد يسرق من مال سيده أو سيدته ، فالجمهور على{[6491]} أنه لا يقطع . وقال أبو ثور وأهل الظاهر : يقطع لظاهر قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } {[6492]} ، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يرد هذا ، قال : خادمكم سرق متاعكم ، ولم يقطع العبد ، وذلك بمحضر الصحابة ، ولم ينكر أحد منهم .
واتفق الجمهور فيما{[6493]} علمت ، على أن الأبوين لا يقطعان في سرقتهما{[6494]} من مال الابن فهما{[6495]} مخصصان من عموم الآية .
وذكر عن أبي ثور أنه قال : يقطع كل من سرق إلا أن يجمعوا على أحد فيسلم للإجماع{[6496]} . فأما الأجداد والجدات فيهما عن مالك قولان .
وأما الابن يسرق من{[6497]} مال أبيه ، فعند مالك وابن القاسم أنه يقطع . وعند ابن وهب وأشهب أنه لا يقطع . وحجة من لا يرى القطع في شيء من ذلك عموم الآية .
واختلف{[6498]} في الزوج والزوجة ، فقيل : يقطع كل واحد منهما في سرقة صاحبه{[6499]} وقيل : لا يقطعان . والقولان في المذهب لمالك{[6500]} وقيل : إنه يقطع الزوج ولا تقطع الزوجة ، وهو أحد قولي الشافعي{[6501]} . وحجة من يرى القطع العموم{[6502]} وأما ما عدا هؤلاء من{[6503]} القرابة كالأخوة والأعمام والأخوال وغيرهم . فعندنا أن القطع واجب فيهم{[6504]} على من سرق . وذهب أبو حنيفة إلى أن لا قطع على من سرق من ذوي رحم محرم . والحجة عليه{[6505]} عموم الآية كما قدمناه{[6506]} .
واختلف في السارق إذا لم توجد السرقة عنده قائمة وأقيم عليه الحد هل يتبع بها أم لا ؟ فذهب مالك رحمه الله تعالى{[6507]} إلى أنه{[6508]}إن كان متصل اليسر ضمن قيمة السرقة ، وإن كان عديما أم{[6509]} أعدم في بعض المرة لم يلزمه غرمها .
أيضا لا يتبع بها في اليسر ولا في العدم ، وهو قول أبي حنيفة ، وقد ذكر عن مالك نحوه . وقيل : إن المسروق منه مخير بين أن{[6510]} يقطع ولا يتبع بشيء وبين أن يتبع ولا يقطع . وقد نسب هذا القول لأبي حنيفة . وقيل : يتبع في اليسر والعسر{[6511]} ، وهو قول الشافعي ويرد هذا القول قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولم يوجب سوى ذلك . ويرد القول بالتخيير أيضا قوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } ، ولم يجعل في ذلك خيارا لأحد وإنما هو حد من حدود الله تعالى{[6512]} .
فالمسائل المتعلقة بهذه الآية لا تنحصر ، وإنما ذكرت منها ما ذكرت تعريفا بمأخذ الأحكام م الألفاظ{[6513]} ، وليستدل{[6514]} بها على غيرها .
وقوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } :
اليد عند العرب من الأصابع إلى المنكب ، وبحسب ذلك اختلف في القطع من أين يكون ؟ فالجمهور على أنه من الكوع ، خلافا لمن قال من الأصابع أو من المرافق أو الإبط ، لأن اليد وإن{[6515]} كان يقع على ذلك كله فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أزال ذلك الاحتمال وبين أن القطع من الكوع{[6516]} . وذكر{[6517]} بعضهم : أن إطلاق اسم اليد إنما يتعارض مع الكوع ، قال : وقوله تعالى{[6518]} : { وأدخل يدك في جيبك } [ النمل : 12 ] ، يدل على ذلك ، لأنه ممتنع أن يدخل يده{[6519]} إلى المرفق ، وإن كان يقع على ذلك كله .
وإذا قلنا : إنه يقطع من الكوع فبأي يد يبدأ اليمنى أو اليسرى ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يبدأ باليمنى . وذهب بعضهم إلى أن الابتداء باليسرى والآية محتملة للقولين إلا أنه قد{[6520]} جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما{[6521]} بين المراد بذلك{[6522]} وذلك أنه عليه الصلاة والسلام{[6523]} ابتدأ في القطع باليمنى{[6524]} ويزيد هذا وضوحا قراءة من قرأ : { فاقطعوا أيمانهما } {[6525]} . واختلف على القول بأن تقطع اليمنى أولا إن سرق{[6526]} ولا يمنى له . فقال مالك : تقطع رجله اليسرى ، ثم عرضت عليه المسألة مرة أخرى فحماها ، وقال : تقطع يده اليسرى ، وتأول قوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } . وقال : ابن القاسم : والقول الأول أحب إلي ، وإن كانت يد السارق اليمنى شلا{[6527]} فالقول فيها كالقول إذا لم يكن له يد يمنى ولا تقطع منه{[6528]} اليد الشلاء ، إذ لا منفعة فيها كالقصاص . وقال الزهري وأبو إسحاق وأبو ثور : تقطع لأنها يد . قال ابن المنذر : وليس لقول من خالف ظاهر{[6529]} الكتاب معنى .
وقد{[6530]} اختلف في السارق يسرق مرة بعد مرة ، فذهب مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه إلى أنه تقطع يده اليمنى . وفي الثانية رجله اليسرى ، وفي الثالثة يده اليسرى{[6531]} ، وفي الرابعة رجله اليمنى ، وفي الخامسة يضرب ويحبس . وذهب قوم{[6532]} إلى مثل هذا ، إلا أنهم قالوا : يقتل في الخامسة . وذكره أبو{[6533]} مصعب عن مالك وغيره من أهل المدينة ، والمشهور عن مالك الأول . واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام{[6534]} " قتل سارقا{[6535]} في الجاهلية " ، وقد قيل في الحديث : إنه منسوخ ، وقيل : إنه لا يصح . وأما الشافعي ، فقال{[6536]} : مثل المشهور عن مالك{[6537]} إلا أنه قال : يحبس في الخامسة ولا يضرب . وذهب قوم إلى أنه لا يقطع في السرقة إلا باليد اليمنى والرجل اليسرى خاصة ، ثم يعزر بعد ذلك لا يحبس ، وهو قول أبي حنيفة .
وذهب قوم إلى أنه لا يقطع من السارق إلا يده اليمنى{[6538]} خاصة ، ثم إن سرق بعد ذلك عزر وحبس ، وهو قول بعض أهل{[6539]} العراق ، وعليه يتأولون الآية ، ويحتجون بقراءة من قرأ : { أيمانهما } ، وذهب جماعة من التابعين من أهل الظاهر إلى أنه لا يقطع من السارق إلا اليدان خاصة ، أخذا بظاهر الآية ؛ لأنه تعالى لم يذكر{[6540]} إلا الأيدي خاصة . ثم يعزر بعد ذلك ويحبس ، ووجه الرد على من اقتصر على الأيدي من القطع{[6541]} ، أن الله تعالى إنما ذكر الحكم في أول سرقة تقع من السارق ولم يذكر الحكم فيه إذا تكرر ذلك منه ، وإنما يتلقى ذلك من السنة فيتبين بها وجوب القطع وتعيين العضو الذي يقطع . وإن قيل : إن العلة في أول سرقة موجودة في المرة الثانية والثالثة ، فيجب القطع لوجود العلة فتقول{[6542]} : إنه يبقى تعيين العضو المقطوع موقوفا على السنة{[6543]} ، وإن تعلق بعضهم بآية المحاربين في تعيين الرجل للقطع في المرة الثانية ، فلا حجة{[6544]} فيه ، فإن الجناية مخالفة للجناية ، فالعقوبة مخالفة للعقوبة ، فلا يصح القياس عليها مع أن حكم آية الحرابة إنما هو في{[6545]} المرة الأولى ، والكلام في السرقة إنما هو فيما بعد الأولى ، فقد تباين الأمران . ووجه السنة في ذلك أنه قد وردت أحاديث كثيرة في القطع على وفق مذهب مالك والشافعي رحمهما الله{[6546]} . وجمهور السلف متفقون{[6547]} على قطع الرجل بعد اليد والأخذ بالسنة في ذلك مع ورود الآية في القطع لشبهة مسألة المسح{[6548]} على الخفين ، وقد وردت الآية{[6549]} بغسل الرجلين أو{[6550]} مسحهما ، ويشبه مسألة جزاء الصيد في الخطأ ، وقد وردت الآية في العمد خاصة . وروي أن نجدة الخارجي كتب إلى ابن عمر يسأله هل قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل بعد اليد ؟ فكتب إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الرجل بعد اليد . يروي في ذلك عن علي رضي الله تعالى{[6551]} عنه ، وروي عنه أنه قال : لا يستنجي أي لا يتطهر لصلاة وذكر عن عمر رضي الله تعالى{[6552]} عنه مثل قول علي ، وأنه قال : لا تقطعوا يده الأخرى وذروه{[6553]} يأكل بها الطعام ويستنجي بها من الغائط ، ولكن احبسوه . ووجه قول مالك والشافعي ، والرد على أبي حنيفة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عنه{[6554]} قطع اليدين والرجلين ، والحديث بذلك عن{[6555]} النسائي وأبي داود{[6556]} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله يدلان على قول علي مع{[6557]} أن لعلي رضي الله تعالى{[6558]} عنه تفردات في باب العقوبات هو غير متبع عليها كقطع أكف الصبيان إذا سرقوا ، فإنه قد نقل عنه أنه كان{[6559]} يفعل ذلك ، فلعل هذه الحكومة{[6560]} من جملة تلك التفردات التي له ، فإن قال أصحاب أبي حنيفة : إنما قال عز وجل : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، فقد زاد على هذا وأوجب قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى ، فقد زاد على النص والزيادة على النص نسخ وقد زدنا نحن وأنتم قطع الرجل زيادة على قطع اليد الذي جاءت به الآية ولم يكن ذلك نسخا وإن كان{[6561]} كذلك لم يبعد زيادة{[6562]} قطع اليد الأخرى والرجل الأخرى ، و{[6563]} لا يعد نسخا .