قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ( 55 ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } :
أمر تعالى في هذه الآية بالدعاء ثم قرن بذلك صفات وهو قوله : { تضرعا } وقوله : { وخفية } . فالتضرع يقتضي الجهر بالدعاء لأنه إنما هو مع {[8362]} إعمال شيء {[8363]} من الجوارح في الطلب ، والخفية أي في النفس خاصة . وقال بعض العلماء : التضرع والخفية في معنى السر جميعا{[8364]} وقد أثنى تعالى على ذلك فقال : { إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 ) } [ مريم : 3 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي " {[8365]} وعلى الاختلاف في هذا التأويل اختلف السلف في الأفضل . فقيل الخفي هو الذي استحسن جماعة {[8366]} في الدعاء وكرهوا الجهر به فقالوا الذكر بالقلب أفضل . وروي عن عائشة : " لأن أذكر الله تعالى في نفسي أحب إلي من أن أذكره بلساني سبعين مرة " . وقال آخرون ذكر الله تعالى باللسان أفضل ، روي ذلك عن ابن مسعود {[8367]} .
قال الطبري{[8368]} : والصواب أن إخفاء النوافل أفضل {[8369]} وقد استدل أصحاب أبي حنيفة على أن إخفاء التأمين في الصلاة أولى من الجهر بهذه الآية لأنه دعاء . والدليل عنه ما روي في تأويل قوله تعالى : { قد أجيبت دعوتكما } [ يونس : 89 ] قال كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله تعالى داعين {[8370]} . وقد يجاب عن هذا بأن إخفاء الدعاء في غير الصلاة أفضل لأنه أبعد عن الرياء . وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فإظهاره أولى لأنه إظهار شعائر وحق يندب إلى إظهاره ، وهذا كله على القول بأن قوله تعالى : { ادعوا ربكم } في الدعاء المعروف . وقد قيل معنى ادعوا : اعبدوا تضرعا وخفية أي باستغاثة واعتقاد وذلك في القلوب {[8371]} .
وقوله تعالى : { إنه لا يحب المعتدين } يريد في الدعاء ، وإن كان اللفظ عاما . وأنواع الاعتداء بالدعاء كثيرة كالجهر الكثير المفرط . وقد قال صلى الله عليه وسلم لقوم : " ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا أعمى ولا غائبا " {[8372]} ومنها الدعاء في معصية أو الدعاء في محال ونحو ذلك . وهذا الأمر بالدعاء أمر ندب . وعبر بعضهم عنه بأنه واجب . وقد اختلف في الدعاء هل فيه منفعة أم لا على ثلاثة أقوال : قيل لا منفعة فيه جملة ولا يغني عن الإنسان شيئا وإنما هو عبادة تعبدنا الله تعالى وأوجبها علينا بقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } ونحو ذلك من الآي كما أمر بالصلاة ونحوها من العبادات . واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم : " جف القلم بما هو كائن " {[8373]} . وقيل الدعاء على الإنسان واجب وهو يرد القضاء واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يرد على الإنسان واجب القضاء إلا إثر دعاء " {[8374]} ومن حجتهم قوله تعالى : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] . وقيل هو واجب ولا يستجاب منه إلا ما وافق القدر {[8375]} . وضعف بعضهم هذا القول وقال إنه راجع إلى القول الأول . ورجحه أبو سليمان الخطابي {[8376]} وقال هو الصحيح . وهو مذهب أهل السنة والجماعة وبه يجمع بين الأحاديث الواردة في الدعاء على اختلافها . والكلام في هذه المسألة كالكلام على سائر أعمال {[8377]} الطاعات من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك وطلب الفائدة فيها مع القدر السابق بما هو كائن إلى يوم القيامة . وقد اختلف في رفع الأيدي في غير الصلاة ، ففي المذهب قولان : الكراهة والجواز . فمن أجازه رآه من التضرع الذي أباحه الله تعالى والزيادة في الخشوع . ومن كرهه رآه من الاعتداء في الدعاء الذي نهى الله تعالى عنه . ورأى ابن عمر قوما رافعي جبل ما ازدادوا من الله قربا {[8378]} . وإلى هذا ذهب جبير بن مطعم {[8379]} وابن المسيب . والذين أجازوا الرفع اختلفوا في الكيفية . فقيل ظهورهما مما {[8380]} يلي الوجه وبطونهما مما يلي الأرض . وإلى هذا ذهب مالك في المشهور عنه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث . وقيل بطونهما بما يلي الوجه . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سألتم الله تعالى فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها " {[8381]} وقال بعضهم إن {[8382]} كل ذلك واسع ومن حجتهم عموم قوله تعالى : { ادعوا ربكم } ولم يخص صفة من صفة . اختلفوا في الرفع إلى أين . فقيل إلى الصدر وقيل إلى الوجه . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في الدعاء حتى يرى {[8383]} بياض إبطيه . ولم يحد {[8384]} بعضهم في ذلك حدا ورأى الأمر واسعا ومن حجته عموم الآية . فأما مسح {[8385]} الوجه في الدعاء فيأتي على قول {[8386]} من لا يرى رفع {[8387]} اليدين أن لا يمسح . ويحتمل على قول من رأى رفع اليدين أن يقول {[8388]} يمسح على وجهه وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالمسح على الوجه فقال : " إذا سألتم الله عز وجل فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم " فهذا منه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى أنه من التضرع الذي أمر الله تعالى به فقال : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } .