قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } :
اختلف في هذه الآية هل يعني بها الكفار أو المسلمون أو كلاهما فذهب قوم إلى أنها في أهل الكتاب لأنها مذكورة بعد قوله تعالى : { إن كثيرا من الأحبار والرهبان } الآية . وذهب قوم{[9014]} إلى أنها في كل كافر . وذهب قوم {[9015]} إلى أنها في المسلمين أو في المسلمين والكفار . واختلفوا بعد ذلك في حق المسلم هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب عمر بن عبد العزيز إلى أنها منسوخة بقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ براءة : 103 ] فأتى فرض الزكاة على هذا كله فصار حكم الآية على هذا القول : أي لا تكنزوا مالا ، أي لا تجمعوه وأنفقوه في سبيل الله فنسخ بالآية المذكورة {[9016]} . وذهب الأكثر إلى أنه محكم ، واختلفوا في تأويله فقال كثير منهم هو المال الذي تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض وأما المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل ما أديت زكاته فليس بكنز " {[9017]} فالمراد بالنفقة على القول الزكاة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر {[9018]} . وقال علي بن أبي طالب : عشرة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته . وقال أبو ذر وغيره : ما فضل من مال الرجل على حال نفقته فهو كنز . وهذان القولان يقتضيان {[9019]} الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، والآية على قول من قالها محكمة وعلى قول عمر بن عبد العزيز منسوخة . واتفق أئمة الفتوى على قول ابن عمر وابن عباس واحتج الطبري بذلك . فقال : الدليل على أن كل ما أديت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في خمس إواق ربع عشرها فإذا كان هذا فرض الله تعالى فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ الوفاء إذا أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه ، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب وإنما توعد الله تعالى بالعقاب على كل ما لم يؤد زكاته ، وليس في القرآن بيان ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جميعه الوعيد إذا لم يؤد حق الله تعالى منه . فأما يؤخذ بوقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية على القول بأنها في الزكاة المفروضة فرض زكاة الذهب {[9020]} قال بعضهم ولم يأت من النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب ما جاء عنه في زكاة الفضة ، ولكن جاء فرض زكاة الذهب في هذه الآية إذ لم يأت في الخبر لكن جاء عنه عليه الصلاة والسلام ألفاظ تعم الذهب والورق مثل قوله : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول له أنا كنزك " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { ولا يحسبن الذين يبخلون } {[9021]} الآية [ آل عمران : 180 ] .
وإنما جاء عنه نصا زكاة الرقة مثل قوله : " في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمسة إواق من الورق صدقة " {[9022]} وإنما لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم قدر زكاة الذهب مخصوصا . فاختلف العلماء بحسب ذلك في الذي أوجب الله تعالى إخراج الزكاة فيه من الذهب بالآية فاعتبرت طائفة في ذلك عشرين مثقالا وذلك أنه كان صرف الدينار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ، والخمس الأواقي التي أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها ربع العشر وزنها مائتا درهم ، والمائتا درهم صرف عشرين مثقالا ، فكما وجب في الخمس الأواقي ربع عشرها كذلك وجب في العشرين مثقالا التي هي عدلها ربع عشرها ، ثم لم يراعوا بعد ذلك زاد الصرف أو نقص ، واعتبرت طائفة ذلك أيضا إلا أنهم قالوا ننظر قيمة الذهب في كل وقت . فإن كانت قيمة مائة درهم وجبت فيه الزكاة كان الذهب أكثر من عشرين أو أقل ، وإن لم تكن قيمته أقل من مائتي درهم فلا زكاة فيه كان الذهب أكثر من عشرين{[9023]} أو أقل وهو قول عطاء وطاووس والزهري . وذهب الحسن إلى أنه ليس فيما دون أربعين دينارا صدقة ، وهو قول شاذ . فهذه ثلاثة أقوال في تفسير النفقة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على القول بأن المراد بها الزكاة وهو الصحيح ، أصحها القول بأن النصاب عشرون {[9024]} . وقد جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث منصوص {[9025]} . وذكر الباجي {[9026]} في قول عمر رضي الله تعالى عنه في الرقة إذا بلغت خمس إواق ربع العشر أن الرقة اسم للورق والذهب . قال بعض أصحابنا وذكر قول بعضهم أيضا الرقة اسم للورق ، وهو أظهر . فهذا القول في نصاب الذهب . وأما نصاب الفضة التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة أيضا فمائتا درهما بلا خلاف لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من النصوص . وقد تتوزع فيمن نزلت فيه الآية .
قال زيد بن وهب مررت {[9027]} بالربذة فإذا أبو ذر . فقلت ما أنزلك منزل هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية {[9028]} في هذه الآية : { والذين يكنزون الذهب والفضة } قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب وقلت : نزلت فينا وفيهم {[9029]} فكان بيني وبينه في ذلك تنازع فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن {[9030]} أقدم المدينة . فقدمتها فكبر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت وكنت قريبا . فلذلك أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت {[9031]} .