قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء . . . . } إلى قوله تعالى : { فريضة من الله } :
هذه الآية نزلت في تعيين من يجوز له أخذ الزكاة ، فالصدقات في الآية هي الزكاة المفروضة . والذين سمى الله فيها هم الذين توضع فيهم الزكاة وعددهم في ظاهر الآية ثمانية . ونحن نتكلم على ما يخص كل واحد منهم ثم نتكلم على ما يعم الجميع . فأما الفقير والمسكين فقد اختلف فيهما اختلاف كثيرا . فقيل هما اسمان لشيء واحد والذي يملك شيئا يسيرا لا يكفيه إلا أنه وصف بصفتين لتأكيد أمره {[9089]} فعلى هذا القول عدد من تقسم عليهم الزكاة في الآية سبعة ، وإلى هذا القول مال ابن الجلاب {[9090]} . وقيل بل هما لمعنيين ، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى هذا في الفرق بينهما {[9091]} على عشرة أقوال {[9092]} .
فقيل الفقير أحسن حالا من المسكين لأنه الذي له البلغة من العيش والمسكين هو الذي لا شيء له{[9093]} واحتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[9094]}
فجعل للفقير حلوبة وقال تعالى : { أو مسكينا ذا متربة ( 16 ) } [ البلد : 16 ] أي من لصق بالتراب من سوء حاله . وأيضا فإن المسكين مفعيل من السكون مبالغة في وصفه بذلك أي لا حركة له كالميت . وقيل لأعرابي : فقير أنت ؟ قال : لا والله بل مسكين . أي أسوأ حالا من الفقير ، وإلى هذا القول ذهب ابن السكيت {[9095]} ويونس {[9096]} وابن قتيبة {[9097]} ، وحكى ابن القصار{[9098]} أنه قول أصحاب مالك وإليه ذهب أبو حنيفة . وقيل المسكين أحسن حالا من الفقير لأنه الذي له البلغة من العيش ، والفقير الذي لا شيء له واحتجوا بقوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } [ الكهف : 79 ] فجعل لهم سفينة . وبقوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض } [ البقرة : 273 ] فإن الفقير المكسور الفقار . ومن كثر فقاره فلا حياة له . ويقول الشاعر :
هل لك من أجر عظيم تؤجره *** تغيث مسكينا كثيرا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره{[9099]}
فجعل له عشر شياه . وإلى هذا القول ذهب الأصمعي {[9100]} والأنباري {[9101]} وهو قول الشافعي . ورجح جماعة القول الأول وردوا ما احتج به الآخرون فقالوا : أما قوله تعالى : { فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] فلا حجة فيه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه سماهم مساكين ترحما وإن لم يكونوا مساكين في الحقيقة فسماهم بذلك مجازا على جهة التحريم . ويبين هذا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مسكين مسكين من لا زوجة له " . قالوا يا رسول الله : وإن كان ذا مال . قال : " نعم وإن كان ذا مال " {[9102]} وقيل لقيلة يا مسكينة عليك السكينة {[9103]} وقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ونعوذ بالله من الفقر " {[9104]} . والثاني : أن يكون إضاف السفينة إليهم على غير جهة الملك كما أن العرب قد تفعل مثل هذا كثيرا ولكن إذا كان من ذلك الشيء بسبب . ولما كان هؤلاء عاملين فيها نسب السفينة إليهم كما يقال هذه الدابة لفلان السائس ، وكما قال تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان ( 46 ) } [ الرحمن : 46 ] كما قال الفرزدق {[9105]} :
وأنتم لهذا الدين كالقبلة التي *** إن يضل الناس يهدي ظلالها{[9106]}
في قول من جعل الضمير عائدا إلى القبلة لا إلى الناس ، ولا ظلال على الحقيقة للقبلة وإنما الظلال لمن يصلي إليها . والثالث : ما جاء من أنه قد قرئ لمساكين بالتشديد للسين . وتفسيره على وجهين : أحدهما : أن يعني بهم دباغي المسوك وإليه ذهب جماعة من المفسرين {[9107]} . والثاني : أن يكون من الإمساك . إلا أن المشهور من هذا أمسك ومسك لغة قليلة . وأما قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] فبين أنه لا حجة فيه إذ ليس يخرج من الآية أنه لا شيء له وأن له شيئا . وسنتكلم على هذه الآية في موضعها إن شاء الله تعالى . وأما قولهم إن الفقير المكسور الفقار فلا حجة فيه لأنه قد يجوز أن لا يكون من ذلك . ويكون من قولهم فقرت البعير إذا حززته {[9108]} بحديدة ثم وضعت على موضع الحز الحديد وعليه وتر لتذله وتروضه . فيكون الفقير إنما سمي فقيرا لأن الدهر قد أذله وفعل به ما يفعل بالبعير الضعيف {[9109]} . وأما الشعر فلا حجة فيه أيضا لأنه لم يرد أن له عشر شياه {[9110]} وإنما معناه أن العشر شياه لو وهبت له لكنت سمعه وبصره فحذف ما لا يتم المعنى إلا به بدلالة الكلام عليه {[9111]} . واعترض أهل القول الثاني احتجاج أهل القول الأول بيت الراعي : أما الفقير الذي كانت حلوبته ، فإنه إنما سماه فقيرا بعد أن صار لا حلوبة له . وإنما ذكر أنه كانت له حلوبة لا أنه له الآن وهذا ضعيف يرده معنى الشعر لأنه إنما يصف مصدقين جاروا في الصدقة وأخذوا حلوبة هذا الفقير . وهل هو حظ أهل اللغة ومن تابعهم من أهل الكلام على الفقير والمسكين وبما قالوه يفسرون الآية وهي ثلاثة أقوال ، وللمفسرين فيها أقوال أخرى . ذهب الضحاك إلى أن الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين من لم يهاجروا . وقال النخعي نحوه . قال سفيان : لا نعطي فقراء الأعراب شيئا . وعلى هذا القول قد انقطع صنف واحد من الثمانية وهم الفقراء فلم يبق إلا المساكين إذ لا هجرة بعد الفتح . وذهب عكرمة إلى أن الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الذمة . قال : ولا تقولوا للفقراء المسلمين مساكين . وروي أيضا عن ابن عباس والضحاك . وذهب بعضهم إلى أن الفقير من لا مال له ولا حرفة ، سائلا كان أو متعففا ، ويحكى هذا عن الشافعي أيضا . وذهب قتادة إلى أن الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج . وذهب ابن عباس وغيره إلى أن الفقراء هم الذين يتصاونون والمساكين الذين يسألون ولا يتصاونون ، وروي هذا عن علي بن زياد {[9112]} عن مالك ، وروي أيضا عن عكرمة . وقال مالك أيضا في المجموعة : الفقير الذي يحرم الرزق والمسكين الذي {[9113]} لا يجد غنى ولا يفطن له {[9114]} . ومن حجة هذا القول قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس " {[9115]} .
وذهب عبيد الله بن الحسن {[9116]} إلى أن المسكين الذي يخضع ويستكن وإن لم يسأل . والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا . فهذه سبعة أقوال لأهل التفسير . فالصدقة لا يجوز دفعها لغني ليس من الأصناف الستة الذين عهدهم الله تعالى بعد الفقراء والمساكين باتفاق لدليل الآية . فإن اجتهد الرجل في صدقته فدفعها إلى غني وهو يراه غير غني فلا تجزئه في المشهور من المذهب وتجزئه عند ابن القاسم في أحد قوليه وأبي حنيفة . ودليل القول الأول قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } فلم يجعل فيها نصيبا للأغنياء فمن أعطاها لغني فكأنه لم يعطها فلا تجزئه وهذا بخلاف ما لو فعله الإمام . واختلف في القوي على الاكتساب هل يجوز له أخذ الصدقة أم لا ؟ فذهب مالك وجماعة سواه إلى أنه يجوز له . وذهب يحيى بن عمر {[9117]} إلى أنه لا يجوز {[9118]} ولا تجزئ معطيها وجعل القوة كالغنى وهو قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وإسحاق {[9119]} . واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " {[9120]} وفي آخر : " ولا لقوي مكتسب " . وحجة القول الأول عموم قوله تعالى : { للفقراء والمساكين } أما الحديث : " ولذي مرة سوي " فإنه مخصوص . واختلف في الغنى الذي يحرم معه أخذ الصدقة فقيل هو الكفاية وإن كان دون نصاب لقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " {[9121]} وهو المشهور عن مالك وإليه ذهب الشافعي . وقيل إن هذا الحديث – وهو حديث الأوقية – منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل وله خمس إواق فقد سأل إلحافا " {[9122]} . وقيل هو النصاب ، ومن كان له دون النصاب فقد حلت له الصدقة . وإلى مثل هذا ذهب أبو حنيفة للحديث : " أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها على فقرائكم " {[9123]} ورواه المغيرة عن مالك وقاله المغيرة وهو قول عبد الملك {[9124]} وقيل الكفاية {[9125]} فمن {[9126]} كان له {[9127]} أكثر من نصاب ولا كفاية فيه حلت له ، وإن كان {[9128]} له أكثر من نصاب ولا كفاية فيه{[9129]} فأحرى أن لا تكون له كفاية فيما دون النصاب . فكان هذا القول اعتبر فيه الكفاية مع النصاب . وقيل هو وجود قوت اليوم ، الغداء والعشاء . واحتج من قال هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار " قالوا يا رسول الله و ما يغنيه ؟ قال : " قدر ما يغذيه ويعشيه " {[9130]} وقال من رد هذا الحديث منسوخ . وقال بعضهم المعنى فيه غداء وعشاء على دائم الأوقات . فإذا كان عنده ما يكفيه لمدة طويلة فقد حرمت عليه المسألة . وقيل هو أربعون درهما لقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل وله أوقيه . . . " وهو قول أبي عبيد ، وقيل هو خمسون ، وقد ضعفت جماعة هذا الحديث . فهذه ستة أقوال أسدها القول باعتبار الكفاية لأن من ليس له ما يكفيه فهو فقير أو مسكين . وقد أحل الله تعالى لهما الصدقة بقوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } قال بعضهم : وكل من حد في الغناء حدا أو لم يحد فإنما هو بعد ما لا غنى له عنه من دار يحلها أو خادم {[9131]} وهو {[9132]} محتاج {[9133]} إليها ولا فضلة في ثمنها ، ومن كان كهذا فالفقهاء مجمعون على أنه يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه . واختلف هل يجوز صرف الصدقة إلى الذمي أم لا ؟ فعندنا أنه لا يجوز وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز واستدل بعموم {[9134]} قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء . . . } ولم يخص . ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام : " خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم " {[9135]} وهذه الإضافة لا بد لها من اختصاص . وقد ثبت أنه لم يرد القبيلة ولا البلد فعلم أن المراد المسلم وعندنا أنه لا يجوز دفع الرجل صدقته لمن تلزمه نفقته خلافا لأبي حنيفة في ذلك تعلقا بعموم الآية . وحجتنا أنهم إذا كانت تلزمهم نفقتهم فليسوا بفقراء بعد . فمن وضع الصدقة فيهم فقد وضعها في غير موضعها ، كذا ذكر بعضهم الخلاف في هذه المسألة . ورأيت بعضهم حكى الاتفاق على أنه لا يجوز دفع الصدقة إليهم ، وأما دفعها لمن لا تلزمه نفقته من أقاربه ، فعن مالك فيه روايتان : الجواز والكراهة . وذكر أنه رؤي مالك يعطي زكاته أقاربه . وحجة الجواز عموم الآية ، وليسوا بأغنياء لأن نفقتهم لا تلزم . وإذا قلنا إنه يعطي قرابته فمن أحق هم أو جيرانه الفقراء ؟ أما إن كان قريبه حاضرا معه فهو أولى وإن كان غائبا غيبة تقصر في مثلها الصلاة . فقيل هو أولى من الجار وقيل الجار أولى وظاهر الآية التسوية لأنه إنما جعل السبب في الأخذ الفقر ، فإذا تساووا في ذلك استووا في جواز الأخذ . واختلف في الزوجة هل يجوز أن تدفع صدقتها إلى زوجها ؟ فمنع مالك من ذلك ، وذكر ابن القصار أن ذلك عند شيوخه على وجه الكراهة ، فإن فعلت أجزأها . وأجازها أشهب {[9136]} إذ لم يرجع إليها شيئا من ذلك في نفقتها . وعن أبي حنيفة والشافعي الروايتان . وحجة الجواز قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } فعم . وأما الزوج فلا يجوز له أن يدفع صدقته إلى زوجه لأن نفقتها تلزمه إلا على ما ذكرنا من قول أبي حنيفة في هذا الأصل ، وإن كان بعضهم قد حكى الإجماع على أن ذلك لا يجوز . واختلف هل تحل الصدقة لآل النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ - وآله وقد تقدم الكلام في تحديدهم - . فقيل لا تحل لهم الصدقة المفروضة ولا التطوع . واحتج الذين ذهبوا إلى هذا بأن عليه الصلاة والسلام رأى الحسن قد أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كخ كخ " ليطرحها . ثم قال : " أما علمت أنا لا نأكل الصدقة " {[9137]} وقال تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] قالوا ولو جاز أن يأخذ منها شيئا هو أو آله لوجدوا سبيلا إلى أن يقولوا إنما يدعونا إلى ما يدعونا إليه ليأخذ أموالنا ويعطيها أهل بيته ، ولكان ذلك كالأجرة . وإلى هذا القول ذهب أبو يوسف في أحد قوليه {[9138]} وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وإليه ذهب مالك في كتاب ابن حبيب وابن حبيب {[9139]} . وقيل الصدقات كلها حلال لآل محمد صلى الله عليه وسلم وهو أحد قولي أبي حنيفة وذكره الباجي عن الأبهري {[9140]} . وذكر الطحاوي {[9141]} أن حجة أبي حنيفة في ذلك أن الصدقات إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما نفل لهم من الخمس من سهم ذي القربى فلما انقطع عنهم ذلك ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حل لهم بذلك ما كان حرم عليهم . وقيل تحل لهم صدقة التطوع وتحرم عليهم المفروضة ، وهذا مروي عن مالك ، وإلى هذا {[9142]} ذهب ابن القاسم . وحجة هذا القول عموم الآية في المفروضة . وخصصوا الأحاديث في تحريم التطوع . وحكى الباجي عن القاضي أبي الحسن أن بعض أصحابهم يقول : تجوز لهم الصدقة الواجبة دون التطوع لأن المنة تقع في صدقة {[9143]} التطوع {[9144]} . وقيل تحل الصدقة لهم بعضهم من بعض ولا تحل لهم من غيرهم ، وذكره الطبري عن أبي يوسف وهذا قول ضعيف يرده عموم الآية والآثار . فهي خمسة أقوال أصحها في الاعتبار الفرق بين صدقة الفرض والتطوع لجريه على ظاهر الآية ومع الأثر . واختلف في موالي النبي صلى الله عليه وسلم هل تحل لهم الصدقة أيضا أم لا ؟ فأجازها ابن القاسم لهم وقد حكي ذلك عن مالك والشافعي ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون وابن نافع ، وإليه ذهب الكوفيون والثوري واحتجوا بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من قوله : " إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ومولى القوم منهم " {[9145]}وبقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الصدقة لا تحل لنا ولا لموالينا " {[9146]} وحجة الأول عموم الآية .
ويتأولون الأحاديث فيحمل قوله عليه الصلاة والسلام منهم أي في النصرة والصلة ونحو ذلك . ويحمل الحديث الآخر على أنه أراد بالموالي بني العم . واختلف إذا كان للرجل على معسر دين هل له أن يتركه ويقطعه من صدقته أم لا ؟ فقيل له ذلك ، وقيل لا يجيء ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه إلى الحاكم أمكن أن يؤديه جاز ، وإلا لم يجز لأنه قد نوى . والأظهر أن لا يجزئ – وهو قول مالك أيضا – لأن مفهوم قوله تعالى : { إنما الصدقات } أن يعطى لأحد هؤلاء الأصناف فتصلح بذلك حاله ، وإذا كان معسرا فترك له ما عليه فلم يصلح من حاله بعد شيء . وقوله تعالى : { والعاملين عليها } هم جباتها وسعاتها يدفع إليهم الإمام من الصدقة أجرة معلومة بقدر عملهم وإلى هذا ذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : " فردها على فقرائهم " ودليلنا قوله تعالى : { والعاملين عليها } {[9147]} .
ومن الناس من لا يرى للعامل إلا الثمن مما عمل تعلقا بظاهر قسمة القرآن ولا يزاد على ذلك شيء وإن كانت أجرته تزيد على ذلك خلافا لما قدمناه من مذهب مالك والشافعي . ومنهم من يرى أن يدفع إليه الثمن فإن أجرته أكملت له من خمس الغنيمة ، وهذان القولان مبنيان على الخلاف في كيفية القسمة فهذه أربعة أقوال في أجرة العامل أصحها ما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى وعليه ينبغي أن تحمل الآية . واختلف هل يجوز أن يكون العامل من ذوي القربى أم لا ؟ فعندنا أنه يجوز ذلك ، وقال الشافعي لا يجوز ، ودليلنا عموم الآية . واختلف في العبد والنصراني هل يستعملان عليها . فقال محمد {[9148]} لا يجوز ذلك لأنه لا حق لهما في الزكاة فإن استعملا وفات انتزع ما أخذا وأعطيا من الفيء . وأجاز ذلك أحمد بن نصر {[9149]} وعلى نحوه يدل مذهب ابن عبد الحكم ، وحجة هذا القول عموم قوله تعالى : { والعاملين عليها } ولم يفرق . وأما الغني فيجوز استعماله ، والأصل في جواز ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين وأهدى المسكين للغني " {[9150]} فذكر فيهم العامل . وقال تعالى : { والعاملين عليها } ولم يخص غنيا من غيره . وقد استدل بعضهم في نصرة أحد قولي الشافعي . ومذهب أبي حنيفة في وجوب دفع الزكاة إلى العمال لأن ذكر العاملين في الآية يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم وأنه لا يجوز أن يخرجها الرجل بنفسه . وهذا فيه نظر لأن ذكرهم يتضمن أن العمال إذا كانوا أعطوا نصيبهم ، فأما إذا لم يكونوا فليس في الظاهر أنه لا بد منهم كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة . وجعل الله للعالمين أجرة من الصدقة يدل على جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال المسلمين . واختلف في أرزاق القضاة ، فكرهها جماعة وأجازها جماعة ، واحتج أبو عبيد في جوازه بهذه الآية . فقال : قد فرض الله تعالى للعامل على الصدقة وجعل لهم منها حقا لقيامهم فيها وسعيهم وكذلك القضاة يجوز أن يجعل لهم أجرة على عملهم وكذلك من شغل بشيء من أعمال المسلمين فله أن يأخذ الرزق على عمله بدليل الآية . وقد {[9151]} كان زيد بن ثابت يأخذ على القضاء الأجر وروي ذلك عن ابن شريح {[9152]} وغيرهما {[9153]} .
وقوله تعالى : { والمؤلفة قلوبهم } الذين يعطون استيلافا . وقد اختلف في سهمهم هل هو ثابت يجب أن يعطوه ، هكذا قال الحسن البصري . وقيل انقطعت المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روي ذلك عن الشعبي . وكذلك قال أصحاب الرأي {[9154]} فلا يعطون شيئا أبدا وإليه ذهب مالك .
وقيل انقطع فإن احتاج المسلمون إلى ذلك أعطوا سهمهم وإلى هذا ذهب ابن حنبل وهو قول ابن شهاب وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الشافعي وهو قول عبد الوهاب {[9155]} ومن زعم أن سهمهم باق لا يغير احتج بالآية . ومن قال إنه انقطع اختلفوا متى انقطع ؟ فقيل انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر قول الشافعي . وقيل لم يزالوا على ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدر من خلافة أبي بكر . وقيل لم يزالوا على ذلك إلى صدر من خلافة عمر ثم قال هو أو أبو بكر لأبي سفيان : قد أغنى الله عنك وعن غربائك ، إنما أنت رجل من المسلمين ، وقطع ذلك عنهم . ثم اختلفوا في الحجة على الانقطاع . فزعم قوم أنه منسوخ ولم يذكر ناسخا وهو قول ضعيف وإلى نحو هذا ينحو قول من يرى أن ذلك يعود يوما ما إن احتيج إليه . واختلفوا في المؤلفة قلوبهم من هم ؟ فقيل هو الكافر يؤلف بالعطاء ليدخل في الإسلام ، وقيل هو المسلم الحديث العهد بالإسلام يؤلف بالعطاء ليثبت على الإسلام . وقيل هو الرجل من عظماء المشركين يسلم فيعطى ليستأنف {[9156]} غيره بذلك من قومه ممن لم يدخل في الإسلام . والأظهر من الآية أن المراد من أسلم ولم يجتمع قلبه على الإسلام وحده ، بل فيه شعب من الكفر فيراد أن يجتمع قلبه على الإسلام وحده وتزال شعب الكفر منه {[9157]} فأما من لم يسلم بعد فإذا يؤلف من قلبه ولم يفترق بعد منه شيء . وممن من كان من المؤلفة قلوبهم : أبو سفيان {[9158]} بن حرب وأبو سفيان بن الحارث {[9159]} والحارث بن هشام {[9160]} وصفوان بن أمية {[9161]} وهو الذي قال : حضرت حنينا مع{[9162]} رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحد من الخلق أبغض إلي منه فما زال يعطيني حتى ما كان أحد من الخلق أحب إلي منه ، وسهيل بن عمرو {[9163]} وحكيم بن حزام {[9164]} ومالك بن عوف {[9165]} والأقرع {[9166]} وعيينة والعباس بن مرداس {[9167]} والعلاء بن جارية الثقفي {[9168]} .
وقوله تعالى : { وفي الرقاب } يريد في عتق الرقاب . وقد اختلف في تفسير ذلك ، فقيل يريد ابتداء عتق الرقاب وذلك أن يشتري من مال الصدقة رقابا كاملة وتعتق ، وإلى هذا ذهب مالك . وقيل هم الكاتبون ولا يجوز أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة وهو قول أبي حنيفة والشافعي والليث . وقيل الآية تجمع الرقاب الكاملة والمكاتبين فيوضع النصف في الرقاب الكاملة والنصف في المكاتبين ، وهو قول الزهري ، دليله قوله تعالى : { وفي الرقاب } وإطلاقه هذا اللفظ يقتضي رقبة كاملة . وأما قول أبي حنيفة والشافعي فتحكم على الآية إلا أن يستند إلى دليل آخر غير الآية . وأما قول {[9169]} الزهري فله تعلق بعموم الآية . واختلف الذين رأوا {[9170]} الآية في الرقاب الكاملة هل يعان بها المكاتب أم لا ؟ فقيل لا يعان جملة وهو المشهور من قول مالك ، وقيل يعان جملة . وقيل يعان في آخر كتابته ولا يعان في أثنائها . وهذا القول من رواية ابن القاسم وابن نافع عن مالك . وحجة هذا القول أن الذي يعين في آخر الكتابة كأنه أعتق جملته لأنه بذلك عتق فدخل تحت قوله تعالى : { وفي الرقاب } . وحجة القول بأنه لا يعان جملة أن إطلاق لفظ الرقاب {[9171]} يقتضي رقبة كاملة . وحجة من قال يعان حمل لفظ الآية على العموم أي أن {[9172]} يوضع سهم منها في الرقاب . ومن أعان مكاتبا فقد وضع سهما في الرقاب . واختلف على القول بإباحة ذلك في المكاتب جملة إن عجز المكاتب هل يرد ذلك من عند السيد أم لا ؟ على قولين . الأظهر منهما الرد لأنه يخرج عن الذي حد الله تعالى من وضعه في رقبة . واختلف هل يعتق منه مدبر أم لا ؟ على قولين . ذكر ابن شعبان {[9173]} أنه لا يعتق . وقد قيل إنه لا بأس أن يعتق منه ، والأول أجود لأن المدبر ليس برقبة تجوز في الرقاب الواجبة لأنه قد خرج عن اسم الرقبة الذي قال الله عز وجل : { فتحرير رقبة } [ النساء : 92 ، المجادلة : 3 ] . ومما يعضد هذا إطلاق لفظ الرقاب في قوله تعالى : { وفي الرقاب } وهذا أيضا يقتضي رقبة كاملة .
واختلف في عتق بعض عبد على ثلاثة أقوال تقوم من المذهب : أحدها : أنه لا يجوز جملة . والثاني : أنه يجوز جملة . والثالث : أنه لا يجوز إذا لم يتم بما فعل عتق العبد ويجوز إذا تم بما فعل عتق العبد ، وإلى هذا ذهب مطرف . وحجة المنع جملة إطلاق بعض الرقاب في الآية . واختلف في عتق العبد {[9174]} المعيب على قولين في المذهب {[9175]} . أحدهما لا يجزئ وهو قول أصبغ والمشهور في المذهب . والثاني أنه يجزئ وهو قول أحمد بن نصر . وحجة القول الأول أيضا إطلاق بعض الرقاب لأنه يقتضي أيضا رقبة سالمة . وحجة من أجاز عموم اللفظ . واختلف أيضا في عتق من يجب على الرجل عتقه إذا ملكه هل يجزئ أم لا ؟ وحجة من أجاز عموم الآية ، ومالك لا يجيز ذلك لأن المنفعة إنما هي لرب الزكاة فكأنه لم يخرجها عنه . واختلف هل يعطى منها الرجل ليعتق عبده عن نفسه على قولين في المذهب مرويين عن مالك . وحجة القول بإجازة ذلك عموم الآية . واختلف هل يفدى منها أسير أم لا على قولين في المذهب أيضا . فذهب أصبغ إلى أنه لا يفدى ، وقال ابن حبيب وابن عبد الحكم يفدى . وحجة القول بأنه لا يفدى مفهوم إطلاق الآية وأنه إنما أراد بذلك من لو اشتراه الإنسان لما عتق عليه . والأسير لا يمكن تملكه فليس برقبة . واختلف في ولاء المعتق من الزكاة ، فقيل لجماعة المسلمين وهو قول الجمهور {[9176]} وقال أبو عبيد للمعتق ، وقال الحسن وابن حنبل وإسحاق يجعل ما تركه في الرقاب . وقال عبيد الله بن الحسن يجعل ماله في بيت الصدقات وحجة القول الأول أنه إذا كان الولاء له فكأنه لم يخرج عنه {[9177]} لأن منفعته له ، وإنما مفهوم الآية أن تخرج منفعته إلى غيره .
وقوله تعالى : { والغارمين } : اختلف في صفتهم . فقيل هم الذين فدحهم الدين وإن كان لهم ما يؤدون منه ديونهم ، وإلى نحو هذا ذهب ابن حبيب . وقيل هم الذين لا يجدون وفاء لقضاء ديونهم أو تكون معهم أموال بإزاء ديونهم فيعطون ما يقضون به ديونهم ، وإلى هذا ذهب {[9178]} عبد الوهاب . والقول الأول أصح لأن الغارم اشتقاقه من الغرم وهو أن يعطي الرجل ما عليه ، والغارم الذي يلزمه أن يغرم .
وإنما سمي غارما وإن لم يغرم بعد على ما يصير إليه . وكل من فدحه {[9179]} الدين فهو غارم . وقد قال تعالى : { والغارمين } فعم ولم يخص . وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لا تحل صدقة لغني إلا لخمسة " وذكر فيهم الغارم وهو المتحمل بحمالة ولم يخص وهذا إذا تداين الإنسان في واجب أو مندوب إليه {[9180]} أو مباح . وأما إن تداين في مكروه أو محظور ويجمع ذلك التداين في معصية فاختلف فيه هل يكون من الغارمين أم لا ؟ فالجمهور على أنه ليس من الغارمين ولا يقضى عنه ذلك الدين . وقال ابن عبد الحكم إذا حسنت حاله أعطي لأنه غارم ، وحجة هذا الأخذ بعموم الآية . والجمهور خصصوا الآية بما عدا تداين المعصية . واختلف فيمن عليه الزكاة فرط فيها ولم يخرجها ناسيا أو عامدا حتى تلف ماله ثم أتى يطلب مع الغارمين ما يؤدي منه زكاته على قولين : أحدهما : أن ذلك له ، والثاني : أنه لا يعطى فلا يقضي من الزكاة زكاة {[9181]} . ودليل القول الأول أن ذلك دين عليه يؤخذ منه ويحكم به عليه ، ومن كان كذلك فهو غارم وقد قال تعالى : { والغارمين } فعم ولم يخص زكاة ولا غيرها . واختلف هل يقضي منها دين ميت أم لا ؟ فقال ابن المواز {[9182]} لا يقضي منها {[9183]} . وقال ابن حبيب يقضي وهو من الغارمين {[9184]} وحجته عموم الآية ، قال وقد كان امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من عليه دين قبل نزول الآية فلما نزلت الآية صار ذلك على السلطان . قوله تعالى : { وفي سبيل الله } سبل الله تعالى كثيرة ، إلا أنه اتفق العلماء على أن المراد بها هاهنا الغزاة المحتاجون وإن كانوا أغنياء في بلادهم . واختلفوا إذا كانوا أغنياء بالموضع الذي هم به . فقيل لا يعطون ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه . وقيل يعطون ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وإسحاق . وحجة هذا القول الكتاب والسنة . فالكتاب قوله تعالى : { وفي سبيل الله } فإذا غزا الغني فأعطي كان ذلك في سبيل الله . وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة " وقد ذكر فيهم الغازي وسماه غنيا . واختلف في الحاج هل يدخل تحت قوله تعالى : { وفي سبيل الله } فيعطى من الزكاة أم لا يدخل فلا يعطى . فذهب ابن عباس وابن عمر ومحمد بن الحسن إلى أنه في سبيل الله وأن الآية تنطوي عليه وأنه يعطى من الزكاة لذلك . واحتجوا بأن رجلا وقف ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته أن تحج وتركبها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أركبيها فإن الحج من سبيل الله " . وذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحت اللفظ ولا يعطى من الزكاة . قال ابن القصار : والحجة لهذا القول إن كل موضع ذكر فيه سبيل الله فالمراد به الغزو والجهاد : قال تعالى : { يقاتلون في سبيل الله } [ براءة : 111 ] وقال تعالى : { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله } [ براءة : 20 ] وكذلك آية الصدقة . وأما غير الغزو والحج من سبل الله فلا يدخل تحت قوله تعالى : { وفي سبيل الله } ولا يحمل على العموم في ذلك وإنما هو الغزو أو الغزو والحج هذا هو قول الجمهور من العلماء {[9185]} وتأول بعضهم على البخاري أن مذهبه حمل اللفظ على العموم في الغزو والحج وغير ذلك لإدخاله في كتابه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن الحج في سبيل الله " {[9186]} وقوله : " إن خالدا قد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله " {[9187]} . وقال ابن عبد الحكم يجوز أن يصرف من الزكاة كل شيء يكون من أمر الجهاد أو يكون منه بسبب مثل مصالحة عدو إذا خيف أو بناء حصن أو حفر خندق أو عمل مجانيق أو حملان أو سلاح أو مراكب للعدو وكراء النواتئة ويعطى منها للجواسيس الذين يأتون بأخبار العدو مسلمين كانوا أو نصارى ، ورأى أن ذلك كله داخل في عموم قوله تعالى : { وفي سبيل الله } .
وقوله تعالى : { وابن السبيل } هو الرجل المسافر المنقطع به يعطى من الزكاة بقدر كفايته إذا كان محتاجا أبدا باتفاق أو غنيا ببلده ومحتاجا بموضعه باتفاق . واختلف إن كان غنيا بموضعه . قال البرقي {[9188]} : قول مالك إنه يعطى وإن كان {[9189]} غنيا ، يريد ببلده . وقال أصبغ يريد بموضعه وبه قال الشافعي فوجه قول أصبغ قوله تعالى : { وابن السبيل } فعم . وإن قلنا إنه لا يعطى إن كان غنيا بموضعه وهو الذي عليه الجمهور . فإن كان محتاجا بموضعه ووجد من يسلفه ، قال مالك في كتاب ابن سحنون لا يعطى . وقال ابن القاسم في كتاب محمد يعطى . وقال ابن عبد الحكم ليس عليه أن يستسلف لأنه يخاف تلفه ويبقى الدين في ذمته إلا أن يجد من يسلفه على أنه {[9190]} إن سلم ماله وإلا فهو في حل . وقول ابن القاسم أظهر بعموم قوله تعالى : { وابن السبيل } يتناول المجتاز {[9191]} ومن يريد السفر ، وبه قال الشافعي . وقال العراقي {[9192]} لا تقع إلا على المجتاز . وحجة القول الأول عموم الآية {[9193]} لأن ابن السبيل يقع عليه وإن لم يسلك بعد السبيل لأنه يصير إليه كما يسمى الغارم غارما وإن لم يغرم بعد . وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته إياه كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته إياه ونحو ذلك .
ولنرجع إلى ما يعم الجميع من الأحكام فنقول : { إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي أن الزكاة كلها لا تعدو هؤلاء {[9194]} الثمانية الأصناف . إلا أنه اختلف في كيفية القسمة عليهم هل هو على الاجتهاد أو السواء ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما إلى أن ذلك على اجتهاد الإمام . وقال الشافعي هي مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم على غير أهله ، وهو قول بظاهر الآية . ومعنى الآية عند من قال بالقول الأول الإعلام بمن تحل له الصدقة ولم يقصد فيها التسوية في القسمة .
واختلف هل يجوز أن توضع في صنف دون صنف أم لا ؟ فعند مالك وأبي حنيفة ومن تابعهما أنه يجوز أن توضع له ولو في صنف واحد على قدر الاجتهاد .
وعند الشافعي أنه لا يجوز إلا أن تقسم على الثمانية الأصناف ولا يجوز أن يخص منها صنف دون صنف واحتج الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام لرجل سأله : " إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف ، فإن كنت واحدا منها أعطيتك " {[9195]} وعند أبي ثور أنه إذا قسمها الإمام لا يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفا دون صنف أجزأه ذلك . وعند النخعي أنه إن كان المال كثيرا قسم على الأصناف كلها وإن كان قليلا أعطى صنفا واحدا . وعند بعض المتأخرين أنه إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا ، وإن قسم الإمام قسم في سبعة أصناف . فهذه خمسة أقوال أصحها قول مالك ، إذ المفهوم من الآية إنما هو الإعلام بموضع الصدقة . فإن قيل فإذا انقسمت الصدقة على ثمانية أصناف وسهم المؤلفة قد انقطع فما يصنع به فهل يرد على سائر الأصناف يقسم عليهم ؟ واختلف إن اجتمع في شخص واحد معان من الأصناف الثمانية التي ذكرها الله تعالى هل يستحق لكل صنف منها قسما أم لا ؟ فعندنا أنه لا يستحق ويدفع إليه على ضرب من الاجتهاد ونهى الشافعي في أحد قوليه إلى أنه يعطى للمعاني المجتمعة كلها . وحجة القول الأول ظاهر الآية إذ المفهوم منها أنه {[9196]} إنما يعطى لواحد من تلك الصفات التي ذكر ، فمن اجتمعت فيه صفتان أو أكثر لم يراع ذلك وأعطي كما يعطى ذو الصفة الواحدة على الاجتهاد . واختلف هل استحقاق الصدقات كلها بالفقر والحاجة فقط أم بذلك مع غيره . فمنهم من قال بالوجه الأول وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف باختلاف معنى الحاجة فيهم فأكد ذلك وبينه ، الوجه الذي لأجله وضع الصدقة فيه واحد على ما قال صلى الله عليه وسلم : " وردها في فقرائهم " ، فبين الاستحقاق بهذا الوجه الواحد . فأما العاملون فيأخذون من جهة الفقر لا من جهة المال فهم كالوكلاء للفقراء . وكذلك جوابهم في المؤلفة قلوبهم لأنهم كانوا يأخذون لإعزاز الدين فمع الفقراء يأخذون . ومنهم من قال بالقول الثاني وزعم أن الغارم قد يأخذ مع الغني وكذلك ابن السبيل والغازي . قال أبو الحسن : والأقرب إلى الظاهر هذا القول {[9197]} .
واختلف في نقل الصدقة من بلد إلى بلد ، فقيل لا تنقل من الموضع الذي أخذت فيه بوجه وهو المشهور من قول الشافعي ، وقيل يجوز نقلها على كل وجه وإن كان في الموضع الذي تجبى فيه من توضع فيه وهو قول أبي حنيفة . وقيل {[9198]} إن كان بالموضع الذي تجبى فيه من يستحقها لم تنقل عنهم وإن لم يكن ثم من يستحقها جاز نقلها إلى من يستحقها ، وهو قول مالك ، وروي عن الشافعي مثله ، وحجة هذا القول قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء } فعم إلا أنه إذا وجد فقراء في موضع الصدقة لم ينقل عنهم لأنهم أحق بها وإن نقل الصدقة من موضعها – وفيه من يستحقها – فهل يسقط الفرض أم لا ؟ المشهور في المذهب أنه يسقط ، وذلك عند الشافعي على قولين الصحيح منهما أنه لا يسقط . وحكى بعض أصحاب مالك أنه قول مالك . قال ابن القصار ولم أجده منصوصا عنه ، والأظهر أنه يسقط {[9199]} لعموم قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء } فعم .
واختلف في قدر ما يعطى الفقير من الصدقة ، فروى علي بن زياد {[9200]} وابن نافع {[9201]} عن مالك أن ذلك على قدر الاجتهاد ، وقد يقل المساكين وتكثر الصدقة . وروى عنه المغيرة أنه يعطى أقل من النصاب ولا يبلغه . والقول الأول أجرى على ظاهر الآية . وهل يصدق الرجل في أنه واحد من الأصناف التي ذكر الله تعالى أم لا ؟ فنقول أما من يدعي الفقر ففيه قولان : أحدهما : أنه يصدق ولا يكلف ببينة ، والثاني : أنه لا يصدق الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره . وحجة من قال لا يصدق إلا ببينة أن يقول مفهوم الآية أن الصدقات إنما هي لمن يعلم من هذه الأصناف . وحجة القول الأول أن هذا من حقوق الله ، وحقوق الله تعالى أخف من حقوق الآدميين فلذلك يصدق في حقوق الله تعالى ولا يصدق في حقوق الآدميين خاصة . وأيضا فإن الناس في حقوق الآدميين محمولون على الغنى حتى يثبت العدم . وذلك ظاهر قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة } الآية [ البقرة : 280 ] وإن ادعى أنه ابن سبيل ففيه قولان : أحدهما : أنه لا يصدق إلا ببينة ، والثاني : أنه يصدق إن كانت عليه هيئة الفقر . وقال مالك في المجموعة : وأين يجد من يعرفه . وحجة القول الأول مفهوم الآية وإن ادعى أنه شيء من الأصناف الباقية لم يصدق إلا ببينة ، ولم أر في هؤلاء خلافا . وهذه الأصناف التي ذكرها الله تعالى أن الزكاة بينهم تبدأ عليهم كلهم ، العاملون منهم ثم الفقراء والمساكين على العتق لأن سد خلة المؤمن أفضل العتق ، وإن كان هناك مؤلفة بدئ بهم على من عدى العاملين لأن الإدخال في الإسلام أفضل من سد خلة الفقير . وقد يبدأ بالغرم إذا خشي على الناس . وقد يبدأ بابن السبيل على الفقير إذا كان يدركه في بقائه أو تأخره عن بلده ضرر ، والفقير في وطنه أقل ضررا . وتحصيل هذا عندي أن العامل يبدأ على الأصناف كلها وإن كان مبدأ في ألفاظ الآية كلها لأن الواو لا تعطي رتبة . وسائر الأصناف يقدم بعضهم على بعض بحسب الاجتهاد وما يرى أنه الأصلح {[9202]} .
وقوله تعالى : { فريضة من الله } محدودة .