التّفسير
الرّسل بعد نوح:
بعد انتهاء البحث الإِجمالي حول قصّة نوح ،أشارت هذه الآية إِلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسى( عليهما السلام ) لهداية الناس كإِبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسف( عليهم السلام ) ،فقالت: ( ثمّ بعثنا من بعده رسلا إِلى قومهم فجاؤوهم بالبيّنات )فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإِعجاز والبرامج البناءة ،إلاّ أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين ،كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضاً ولم يؤمنوا بهم ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) .
ملاحظتان
1جملة: ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل ) تشير إِلى أنّ فئة من بين الأُمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح ،واستمروا في الثبات على موقفهم ،ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر ،وبناءً على هذا فإِن الجملة المذكورة تشير إِلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين ( وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد ) .
وقد احتمل أيضاً في معنى هذه الآية أنّها تشير إِلى جماعتين مختلفتين ،إِحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته ،والأُخرى هم الذين جاؤوا بعد أُولئك وسلكوا طريقهم في إِنكار وتكذيب الأنبياء ،وبناء على هذا ،فإِنّ معنى الجملة يصبح: إِنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإِيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإِيمان به .
طبعاً ،بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان ،سيقوى هذا الاحتمال في تفسير هذه الآية ،إلاّ أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة ،وهي واو الجمع في كانوا ،وليؤمنوا ،وكذبوا .
2من الواضح أنّ جملة: ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) لا تدل على الجبر ،وقد أخفي تفسير ذلك فيها ،لأنّها تقول: إِنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئاً ،وبناءً على هذا فإِنّ الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإِلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء ،وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجياً حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق ،ووصل الأمر بهم إِلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم ،بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة{[1745]} .