{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ 74}
بين الله تعالى في هذه الآية عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل وسنة من سننه فيهم تكملة لما بينه في حال قوم نوح مع رسولهم ، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا كيف يتقون عاقبة المكذبين من قوم نوح وغيرهم ، فإن كل سوء وضر علم سببه أمكن اتقاؤه باتقاء سببه إذا كان من عمل الناس الاختياري كالكفر والاعتداء والظلم .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} أي بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فيما يأتي من خبرهم معهم ، ولهذا أفرد كلمة قومهم فيما يظهر لنا منه ، والمراد أرسلنا كل رسول إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود ، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا زمانه إلا شعيبا أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة لاتحادهما في اللغة والوطن ، وإنما أرسل محمد وحده إلى الناس كافة .
{ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أي فجاء كل رسول منهم قومه بالبينات الدالة على رسالته وصحة ما دعاهم إليه بحسب أفهامهم وأحوالهم العقلية .
{ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي فما كان من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره وهو استنكار الرؤساء ، وتقليد الدهماء للآباء والأجداد .
{ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي مثل هذا الطبع ، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت فيهم نطبع على قلوب المعتدين مثلهم في كل قوم كقومك أيها الرسول إذا كانوا مثلهم{ ولا تجد لسنتنا تحويلا} [ الإسراء:77]{ ولن تجد لسنة الله تبديلا} [ الأحزاب:62] ، فأما الطبع على القلوب فهو عبارة عن عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها مما يخالفه ، كقبول الجاهل المقلد الدليل العلمي على بطلان اعتقاده التقليدي ، ورجوع المعاند عن عناده وكبره النفسي ، وقد تقدم تفصيله في تفسير ما سبق فيه من الآيات في سور النساء والأعراف والتوبة ، ومثله تفسير{ ختم الله على قلوبهم} [ البقرة:7] في أوائل سورة البقرة ، وأما الاعتداء الذي صار وصفا ثابتا لهؤلاء ( المعتدين ) فمعناه تجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها ، فالطبع المذكور أثر طبعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء ، وليس عقابا آنفا ( بضمتين أي جديد ) خلقه الله لمنعهم من الإيمان ، إذ لو كان كذلك لكانوا معذورين بكفرهم ، ولما كان فيه عبرة لغيرهم ، بل لكان حجة لهم ، وقد فهمت قريش وسائر العرب ما لم يفهمه متكلموا الجبرية من هذه الآية وأمثالها ، وهو أنها وصف للعلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، وسنته تعالى في دوام كل منهما بدوام الآخر ، لا بذاته وكونه خلقيا لا مفرا منه ، بل المفر أمر اختياري ممكن ، وهو ترك المعاند لعناده والمقلد لتقليده ، إيثارا للحق الذين يقوم عليه الدليل ، فهموا هذا فاهتدى الأكثرون بالتدريج ، وهلك الذين استحبوا العمى على الهدى في غزوة بدر وغيرها .