ثم أكد ما سلف بقوله سبحانه:
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} .
المفردات:
البشارة: في أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ،ويكون في السرور والحزن ،فهو حقيقة في كل منهما ،وعلى هذا جاءت الآية ،ثم خص في عرف اللغة بالخبر السار ،يقال لمن لقي مكروها: قد اسودّ وجهه غما وحزنا ،ولمن ناله الفرح والسرور:استنار وجهه وأشرق .
الكظيم: الممتلئ غما وحزنا ،والكظم مخرج النفس ،يقال: أخذ بكظمه ؛ إذا أخذ بمخرج نفسه ،ومنه كظم غيظه أي: حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس .
يتوارى:يستخفي ،وقد كان من عادتهم في الجاهلية ،أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته ،فإن أخبر بذكر ابتهج ،وإن أخبر بأنثى حزن ،وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع .
يمسكه:يحبسه ،كقوله تعالى:{أمسك عليك زوجك} . ( الأحزاب:37 ) .
الهون:الهوان والذل .
يدسه:يخفيه .
التفسير:
-{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} .
تحكي هذه الآيات جانبا من رذائل بعض القبائل العربية ،التي كثر بينها الحرب والغارة والقتال ،والعدوان ودفع العدوان والثأر ، فأكلت الحرب رجالهم وأموالهم ،وكانوا لا يهنئون إلا بثلاثة أشياء ، شاعر ينبغ ،أو ذكر يولد ، أو فرس تنتج ،وكلها عدة الحرب .
فالشاعر يمدح قبيلته ويتغنى بأمجادها ،ويهجو أعداءها ،والولد الذكر عدة الحرب والغارة ،في بلد لا سلطان فيه ولا قانون ،وإنما السيف هو السلطان والقانون ،والفرس: هو الخيل التي أقسم الله بها في كتابه ،وكانت عدة الحرب في الجاهلية والإسلام .
كانت بعض القبائل العربية تكره ولادة الأنثى ،وقد وصف القرآن ذلك أبلغ وصف ،وعبر عنه أقوى تعبير:{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ...} .
فإذا علم أحد هؤلاء المشركين أنه ولد له أنثى ؛ظل وجهه كئيبا حزينا ،مسودا من الهم ،ممتلئا غيظا وحنقا ،من شدة ما هو فيه من الحزن .
{يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ...} .
فهو يختفي عن القوم حياء وخجلا ،وحزنا وكمدا ؛ من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ،ولم تلد له ذكرا ،ويدور بخلده أحد أمرين:
1إما أن يمسكها ويبقيها على قيد الحياة ،لكن بقاء ذلة وهوان ،فلا يورّثها ويعنى بها ،بل يفضل الذكور عليها .
2- وإما أن يدفنها في التراب ،وهي على قيد الحياة ،فيقتلها دون أن ترتكب ذنبا أو إثما ،قال تعالى:{وإذا الموءودة سئلت*بأي ذنب قتلت} ( التكوير: 9 ، 8 ) .
{ألا ساء ما يحكمون} . أي:بئس الحكم حكمهم ،وبئس الفعل فعلهم ؛ حيث نسبوا البنات إلى الله ،وظلموهن ظلما شنيعا ، حيث كرهوا وجودهن ،وأقدموا على قتلهن ،بدون ذنب أو ما يشبه الذنب .
وصدّر سبحانه هذا الحكم العادل عليهم ، بحرف ألا الاستفتاحية ؛لتأكيد هذا الحكم ،ولتحقيق أن ما أقدموا عليه ،إنما هو جور عظيم ،قد تمالئوا عليه بسبب جهلهم الفاضح ،وتفكيرهم السيئ .
وأسند سبحانه الحكم إلى جميعهم ،مع أن من فعل هذا كان بعضا منهم ؛ لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح ،وهذا الترك هو في ذاته جريمة يستحق عليها الجميع العقوبة ؛لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه يعتبر رضا به . 38 .