فناء الكون وبقاء الله
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )}
/م26
المفردات:
فان: هالك .
وجه ربك: ذاته .
ذو الجلال والإكرام: ذو العظمة والكبرياء ،والتفضل بأنعمه على العباد .
التفسير:
26 ، 27 ، 28-{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
جميع ما على وجه الأرض يفنى ،فالفناء يعمّ كل من في الكون .
قال تعالى:{كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ،له الحكم وإليه تُرجعون} .( القصص: 88 ) .
أي: أن ملائكة السماء تَفْنى ،وكذلك الإنس والجنّ يموتون ،وذات الله باقية خالدة بلا فناء ،لا أوّل لبدايتها ،ولا آخر لنهايتها ،وهو صاحب الفضل والإنعام على عباده ،فبعد الفناء يكون البعث ،ويكون البقاء في نعيم الجنة للمتقين ،وفي عذاب النار للكافرين .
وفي الموت أنعم متعددة ،منها الراحة من المرض وأرذل العمر ،وبعد الموت تتجدد الأجيال ،وتحيا الذرية وتكبر ،ثم تهرم وتموت ،ولو استمرت الحياة لضاقت الأرض بأهلها ،وصار فوق كل قدم أكثر من مائة قدم .
قال الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل
ويقول الآخر:
فلو أنَّا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حي
ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعد ذا عن كل شي
والآية بعد ذلك تنطق بالرهبة والحقيقة الصامتة ،فكل ما تراه على وجه الأرض معرض للفناء والموت: الإنس والجن ،والطير والوحوش ،والزواحف والحشرات ،والزرع والأنهار والأشجار ،بل وكل من في السماوات من الملائكة ،والشموس والأقمار ،والنجوم والأبراج والأفلام ،كل ذلك يشمله الفناء والهلاك .
قال تعالى:{كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ،له الحكم وإليه تُرجعون} .( القصص: 88 ) .
وذلك يدعونا إلى التأمل والنظر ،والاعتبار والعمل ،وإذا كانت الدنيا فانية فإن الآخرة باقية ،ومن الواجب إيثار ما يبقى على ما يفنى ،أي: يجب إيثار العمل الصالح ،وطاعة الله تعالى ،واجتناب نواهيه .
قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .( الأعلى: 16-19 ) .
ذو الجلال والإكرام
صفتان من صفات الله ،وهما الجلال والإكرام ،أي العظمة والكبرياء ،وفي الحديث الذي رواه الترمذي ،عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام "viii .أي: الزموا ذلك في الدعاء .
ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم:"يا حي يا قيوم ،يا بديع السماوات والأرض ،يا ذا الجلال والإكرام ،لا إله إلا أنت ،برحمتك نستغيث ،أصلح لنا شأننا كله ،ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أحد من خلقك "ix .
وفي معنى الآية قوله تعالى:{كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ،له الحكم وإليه تُرجعون} .( القصص: 88 ) .
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
و سبحانه الخالق ،القابض الباسط ،المحيي المميت ،المعز المذل ،فالناس جميعا تتساوى في الفناء ثم تبعث على نيَّاتها ،فيكافئ الله المطيع بالثواب ،ويعاقب العاصي بعدل الجزاء ،وفي ذلك نعمة أيّ نعمة .
قال تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره} .( الزلزلة: 7-8 ) .
ولله الفضل في بدء الخلق ،ثم في نعمة الرزق ،ثم في نعمة الموت والبعث ،فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان يا معشر الجن والإنس ؟اللهم لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ،فلك الحمد .
وصدق الله العظيم إذ يقول:{الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ...} ( الروم: 40 ) .
قال القرطبي:
ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ،ومع الموت تستوي الأقدام ،والموت سبب النقلة من دار الفناء إلى دار الثواب والجزاء .