باب الرشوة
قال الله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ للسُّحْتِ } قيل إن أصل السُّحْتِ الاستئصال ، يقال : أسْحَتَهُ إسْحاتاً : إذا استأصله وأذهبه ، قال الله عز وجل : { فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] أي يستأصلكم به . ويقال : أسحت مالَهُ ، إذا أفسده وأذهبه . فسمّي الحرام سحتاً لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال . وروى ابن عيينة عن عمار الدهنيّ عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال : سألت عبدالله بن مسعود عن السّحْتِ أهو الرشوة في الحكم ؟ فقال : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } ولكنّ السحْتَ أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها . وروى شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال : سألت عبدالله عن الجور في الحكم ، فقال : " ذلك كُفْرٌ " ؛ وسألته عن السحت ، فقال : " الرشا " . ورَوَى عبد الأعلى بن حماد : حدثنا حماد عن أبان عن أبي عياش عن مسلم ، أن مسروقاً قال : قلت لعمر : يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت ؟ قال : " لا ، ولكن كُفْرٌ ، إنما السّحْتُ أن يكون لرجل عند سلطان جاهٌ ومنزلةٌ ويكون للآخر إلى السلطان حاجةٌ ، فلا يقضي حاجته حتى يُهْدِيَ إليه " . ورُوي عن علي بن أبي طالب قال : " السّحْتُ الرَّشْوَةُ في الحكم ومهرُ البغيِّ وعسبُ الفحل وكسب الحجّام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية " . فكأنه جعل السحت اسماً لأخذ ما لا يطيب أخذه . وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك : " السحتُ الرّشا " . ورَوَى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال : " إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت ، وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر " . وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال : " بابانِ مِنَ السحت يأكلهما الناس : الرشا ومهر الزانية " . ورَوَى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَدَايا الأُمَرَاءِ مِنَ السُّحْتِ " . ورَوَى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما " . ورَوَى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " . ورَوَى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي والمُرْتَشِي في الحُكْمِ " .
قال أبو بكر : اتّفق جميعُ المتأوِّلين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم ، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى .
مطلب : في وجوه الرشوة
والرّشْوة تنقسم إلى وجوه : منها الرشوة في الحكم ، وذلك محرَّمٌ على الراشي والمرتشي جَميعاً ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ اللَّهُ الراشي والمُرْتَشِي " والرَّائِشُ وهو الذي يمشي بينهما ، فذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحقّ له ، فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فَرْضٌ عليه ، واستحقّ الراشي الذمَّ حين حاكم إليه وليس بحاكم ، ولا يَنْفُذُ حكمه ، لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة ، كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم . ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه . وفي هذا دليلٌ على أن كل ما كان مفعولاً على وَجْهِ الفرض والقُرْبة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخْذُ الأجرة عليه ، كالحجّ وتعليم القرآن والإسلام ؛ ولو كان أخْذُ الأبدال على هذه الأمور جائزاً لجاز أخْذُ الرشا على إمضاء الأحكام ، فلما حرم الله أخْذَ الرشا على الأحكام واتفقت الأمّة عليه دلّ ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب . وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين ، أحدهما : أخذ الرشوة ، والآخر : الحكم بغير حق ؛ وكذلك الراشي . وقد تأوّل ابن مسعود ومسروق السحْتَ على الهدية في الشفاعة إلى السلطان ، وقال " إن أخذ الرشا على الأحكام كَفَرَ " . وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله : " الرشا من السحت " . وأما الرشوة في غير الحكم ، فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان ، وذلك منهيٌّ عنه أيضاً لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه ، قال الله تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتقوى } [ المائدة : 2 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ المَرْءِ مَا دَامَ المَرْءُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ " . ووجه آخر من الرشوة ؛ وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظُلْمِهِ عنه ، فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها . ورُوي عن جابر بن زيد والشعبي قالا : " لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " ، وعن عطاء وإبراهيم مثله . ورَوَى هشام عن الحسن قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " قال الحسن : " ليُحِقَّ باطلاً أو يُبْطِلٍ حقّاً ، فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس " . وقال يونس عن الحسن : " لا بأس أن يعطي الرجلُ من ماله ما يصون به عِرْضَهُ " . ورَوَى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : " اجعل مالَكَ جُنَّةً دون دينك ولا تجعل دينك جُنَّةً دون مالك " . ورَوَى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال : " لم نجد زمن زياد شيئاً أنفع لنا من الرشا " . فهذا الذي رخّص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه ؛ وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة ، أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئاً ، فَسَخِطَهُ فقال شعراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اقْطَعُوا عَنَّا لِسَانَهُ " فزادوه حتى رَضِي .
وأما الهدايا للأمراء والقضاة ، فإن محمد بن الحسن كرهها ، وإن لم يكن للمُهْدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ؛ ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللُّتْبِيَّة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ، فلما جاء قال : هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بَالُ أَقْوَامٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ عَلَى مَا وَلاَّنا اللَّهُ فيقولُ هَذَا لَكُمْ وهذا أُهْدِيَ لي ! فهَلاَّ جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ فَنَظَرَ أيُهْدَى له أم لا ! " . وما رُوي عنه عليه السلام أنه قال : " هدايا الأُمَرَاءِ غُلولٌ وهدايا الأمَراءِ سُحْتٌ " . وكره عمر بن عبدالعزيز قبول الهدية ، فقيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها ، فقال : كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحتٌ . ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل القضاء ؛ فكأنه إنما كره منها ما أُهْدِيَ له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يُهْدَ له . وقد دل على هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : " هَلاَّ جَلَسَ في بيت أبيه وأمّهِ فنظر أيُهْدَى له أم لا " فأخبر أنه إنما أهْديَ له لأنه عامل ، ولولا أنه عامل لم يُهْدَ له ، وأنه لا يحلّ له ؛ وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يُهْدِهِ إليه لأجل القضاء ، فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك . وقد رُوي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت عليّ امرأة عمر ، فردَّها عمر ومنع قبولها .
باب الحكم بين أهل الكتاب
قال الله تعالى : { فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ظاهر ذلك يقتضي معنيين ، أحدهما : تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم ، والثاني : التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا . وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم ، فقال قائلون منهم : " إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعْرَضَ عنهم وردَّهم إلى دينهم " . وقال آخرون : " التخيير منسوخٌ ، فمتى ارتفعوا إلينا حَكَمْنا بينهم من غير تخيير " .
فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسنُ والشعبي وإبراهيم روايةً ؛ ورُوي عن الحسن : " خلّوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم ، وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم " . ورَوَى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : " آيتان نُسِخَتا من سورة المائدة : آية القلائد ، وقوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخَيَّراً إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم ، حتى نزلت : { وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله ولا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ } فأُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه " . ورَوَى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله : { فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أعْرِضْ عَنْهُمْ } قال : نسخها قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . ورَوَى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد : { فإن جَاؤُوكَ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } . قال : نسختها : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . وروى سفيان عن السديّ عن عكرمة مثله .
قال أبو بكر : فذكر هؤلاء أن قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . ناسخٌ للتخيير المذكور في قوله : { فإن جَاؤُوكَ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ؛ ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي ، لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يُدْرَك من طريق الرأي والاجتهاد ، وإنما طريقه التوقيف ، ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ } ، وإن التخيير نسخه ، وإنما حُكي عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ ، فثبت نسخ التخيير بقوله : { وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله } ، كرواية من ذكر نسخ التخيير . ويدل على نسخ التخيير قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، الآيات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله . ولا نعلم أحداً قال إن في هذه الآيات : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 44 ] منسوخاً إلا ما يُرْوَى عن مجاهد ، رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 44 ] نسخها ما قبلها : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ } وقد رَوَى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله : { فإنْ جاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } منسوخ بقوله : { وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله } . ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ } قبل أن تُعْقَد لهم الذمّة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية ، فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام ، أُمِرَ بالحكم بينهم بما أنزل الله ، فيكون حكم الآيتين جميعاً ثابتاً : التخييرُ في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يَجْرِ عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم ، وإيجابُ الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يَجْرِي عليهم أحكام المسلمين . وقد رُوي عن ابن عباس ما يدل على ذلك ؛ روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس ، أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ } إنما نزلت في الدية بين بني قُرَيْظة وبين بني النَّضِير ، وذلك أن بني النضير كان لهم شَرَفٌ يُدَوْنَ دِيَةً كاملة ، وأن بني قريظة يُدَوْنَ نِصْفَ الدية ؛ فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقّ في ذلك فجعل الدية سواءً . ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم تكن لهم ذمّة قطّ ، وقد أجْلَى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ، ولو كان لهم ذمّة لما أجلاهم ولا قتلهم ، وإنما كان بينه وبينهم عَهْدٌ وهدنة فَنَقَضُوها . فأخبر ابن عباس أن آية التخيير نزلت فيهم ، فجائز أن يكون حكمها باقياً في أهل الحرب من أهل العهد ، وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتاً في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ . وهذا تأويل سائغٌ لولا ما رُوي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى . ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى ، وعن الحسن ومجاهد والزهري : أنها نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه ، وهؤلاء أيضاً لم يكونوا أهل ذمة ، وإنما تحاكموا إليه طلباً للرخصة وزوال الرجْمِ ، فصار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدارسهم ووَقَفَهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ، ثم رجم اليهوديين وقال : " اللَّهُمَّ إنّي أوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أماتُوها " .
وقال أصحابنا : " أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين ، إلاّ في بيع الخمر والخنزير ، فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرُّون على أن تكون مالاً لهم ، ولو لم يَجُزْ مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالاً لهم ، ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان " . ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء فيمن استهلك لذميٍّ خمراً أن عليه قيمتها . وقد رُوي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمّة في العُشُور ، فكتب إليهم عُمَرُ : " أنْ ولُّوهُم بيعها وخذوا العُشْرَ من أثمانها " فهذان مالٌ لهم يجوز تصرفهم فيهما ، وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل نجران : " إمَّا أنْ تَذَرُوا الرِّبَا وإمَّا أنْ تأْذَنُوا بحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ " فجعلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين ، قال الله تعالى : { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل } [ النساء : 161 ] فأخبر أنهم مَنْهِيُّون عن الربا وأكل المال بالباطل ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } [ النساء : 29 ] فسَوَّى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة ، وقال تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكَّالُونَ للسُّحْتِ } . فهذا الذي ذكرناه مذهبُ أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود ، أهلُ الذمة والمسلمون فيها سواءٌ ، إلاّ أنهم لا يُرجمون لأنهم غير مُحْصَنِين . وقال مالك : " الحاكم مخيَّرٌ إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يُعْرِضَ عنهم فلا يحكم بينهم " وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها .
واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم ، فقال أبو حنيفة : " هم مُقَرَّوْنَ على أحكامهم لا يُعترض عليهم فيها إلاّ أن يرضوا بأحكامنا ، فإن رضي بها الزوجان حُمِلاَ على أحكامنا ، وإن أبَى أحدهما لم يُعْتَرَضْ عليهم ، فإذا تراضيا جميعاً حَمَلَهُما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم ، وكذلك إن أسلموا " . وقال محمد : " إذا رضي أحدهما حُمِلاَ جميعاً على أحكامنا وإن أبَى الآخر ، إلاّ في النكاح بغير شهود خاصة " . وقال أبو يوسف : " يُحملون على أحكامنا وإن أبوا إلاّ في النكاح بغير شهود تجيزه إذا تراضوا بها " . فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مُنَاكحاتهم ، إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ مع علمه بأنهم يستحلّون نكاح ذوات المحرم ، ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما ؛ وكذلك اليهود والنصارى يستحلّون كثيراً من عقود المناكحات المحرَّمة ولم يأمر بالتفرقة بينهم حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القُرَى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية ؛ وفي ذلك دليلٌ على أنه أقرَّهم على مناكحاتهم كما أقرّهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلالٌ وباطلٌ ، ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران : " إمّا أنْ تَذَرُوا الرّبا وإما أنْ تَأْذَنُوا بحَرْبٍ من الله ورسوله " ؟ فلم يقرّهُمْ عليه حين علم تبايعهم به . وأيضاً قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السَّوادَ أقَرَّ أهْلَها عليها وكانوا مجوساً ، ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحاتهم . وكذلك سائر الأمة بعده جَرَوْا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم ؛ وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا .
فإن قيل : فقد رُوي عن عمر أنه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه . قيل له : لو كان هذا ثابتاً لورد النقل متواتراً كوروده في سيرته فيهم في أخْذِ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به ، فلما لم يَرِدْ ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت . ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا ؛ وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا . وأيضاً قد بينا أن قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله } ناسخٌ للتخيير المذكور في قوله : { فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ، والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخييرُ ، فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه ، فينبغي أن يكون حكم الشرط باقياً والتخيير منسوخاً ، فيكون تقديره مع الآية الأخرى : فإن جَاؤُوكَ فاحكم بينهم بما أنزل الله . وإنما قال : " إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلاّ في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة " مِنْ قِبَلِ أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراضٌ عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا ، فمتى تراضَوْا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ، ومعلوم أن العدّة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء ، لأن امرأة تحت زوج لو طرأت عليها عدّة من وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لم يمنع ما وجب من العدّة بقاء الحكم ، فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء ؛ فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما . ومن جهة أخرى أن العدة حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة ، فإذا لم تكن عندهم عدّة واجبة لم تكن عليها عدة ، فجاز نكاحها الثاني . وليس كذلك نكاح ذوات المحارم ، إذْ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه ، وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرطٌ في صحة العقد وجود الشهود في حال العقد ، ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود ؛ لأن الشهود لو ارتدّوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثّر ذلك في العقد ؛ فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يَجُزْ أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود . ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلَفٌ فيه بين الفقهاء ، فمنهم من يُجِيزُهُ ، والاجتهادُ سائغ في جوازه ، ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه ، فغير جائز فَسْخُه إذا عقدوه في حال الكفر ، إذْ كان ذلك سائغاً جائزاً في وقت وقوعه ، لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يَجُزْ بعد ذلك فَسْخُه . وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعاً بأحكامنا مِنْ قِبَلِ قول الله تعالى : { فَإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } فشرط مجيئهم ، فلم يَجُزِ الحكمُ على أحدهما بمجيء الآخر .
فإن قال قائل : إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام . قيل له : هذا غلطٌ ، لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجاباً ، ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه وبعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا ؟ وأيضاً إذا لم يَجُزْ أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يَرْضَ به مُبْقًى على حكمه لا يجوز إلزامه حكماً لأجل رضا غيره . وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يُلْزِمُ الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم . وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } .