قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . ظاهره رجوع الكناية إلى المذكورين قبله وهم الذين اعترفوا بذنوبهم ؛ لأن الكناية لا تستغني عن مظهر مذكور قد تقدم ذكره في الخطاب ، فهذا هو ظاهر الكلام ومقتضى اللفظ . وجائز أن يريد به جميع المؤمنين وتكون الكناية عنهم جميعاً لدلالة الحال عليه ، كقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] يعني القرآن ، وقوله : { ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وهو يعني الأرض ، وقوله : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] يعني الشمس ، فكنى عن هذه الأمور من غير ذكرها مظهرة في الخطاب لدلالة الحال عليها ؛ كذلك قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يحتمل أن يريد به أموال المؤمنين ، وقوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } يدل على ذلك ؛ فإن كانت الكناية عن المذكورين في الخطاب من المعترفين بذنوبهم فإن دلالته ظاهرة على وجوب الأخْذِ من سائر المسلمين ، لاستواء الجميع في أحكام الدين إلا ما خصّه الدليلُ ؛ وذلك لأن كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص أو على شخص من عباده أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا ما قام دليل التخصيص فيه . وقوله تعالى : { تُطَهِّرُهُمْ } يعني إزالة نجس الذنوب بما يعطي من الصدقة ؛ وذلك لأنه لما أطلق اسم النجس على الكفر تشبيهاً له بنجاسة الأعيان أطلق في مقابلته وإزالته اسم التطهير كتطهير نجاسة الأعيان بإزالتها ، وكذلك حكم الذنوب في إطلاق اسم النجس عليها ، وأطلق اسم التطهير على إزالتها بفعل ما يوجب تكفيرها ، فأطلق اسم التطهير عليهم بما يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم من صدقاتهم ومعناه أنهم يستحقون ذلك بأدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لو لم يكن إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ لما استحقوا التطهير ، لأن ذلك ثواب لهم على طاعتهم وإعطائهم الصدقة وهم لا يستحقون التطهير ولا يصيرون أزكياء بفعل غيرهم ، فعلمنا أن في مضمونه إعطاء هؤلاء الصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك صاروا بها أزكياء متطهرين .
وقد اختلف في مراد الآية هل هي الزكاة المفروضة أو هي كفارة من الذنوب التي أصابوها ، فرُوي عن الحسن أنها ليست بالزكاة المفروضة وإنما هي كفارة الذنوب التي أصابوها ، وقال غيره : " هي الزكاة المفروضة " . والصحيح أنها الزكوات المفروضات إذْ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكوات الأموال ، وإذا لم يثبت بذلك خبرٌ فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس ؛ ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوى الناس في الأحكام إلا مَنْ خَصَّه دليل فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة على جميع الناس غير مخصوص بها قوم دون قوم ، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذْ ليس في أموال سائر الناس حَقٌّ سوى الصدقات المفروضة . وقوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } لا دَلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة ؛ لأن الزكاة المفروضة أيضاً تطهر وتزكي مؤديها ، وسائرُ الناس من المكلَّفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم .
وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } عموم في سائر أصناف الأموال ومُقْتَضٍ لأخْذِ البعض منها ، إذ كانت من مقتضى التبعيض وقد دخلت على عموم الأموال فاقتضت إيجاب الأخذ من سائر أصناف الأموال بعضها . ومن الناس من يقول إنه متى أخذ من صنف واحد فقد قضى عهدة الآية ؛ والصحيح عندنا هو الأول ، وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي .
قال أبو بكر : وقد ذكر الله تعالى إيجاب فرض الزكاة في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه ومقادير الوجب والموجب فيه ووقته وما يستحقه وما ينصرف فيه ، فكان لفظ الزكاة مجملاً في هذه الوجوه كلها ، وقال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } فكان الإجمال في لفظ الصدقة دون لفظ الأموال لأن الأموال اسم عموم في مسمياته ، إلا أنه قد ثبت أن المراد خاصٌّ في بعض الأموال دون جميعها والوجوب في وقت من الزمان دون سائره ، ونظيره قوله تعالى : { في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 و 25 ] ، وكان مراد الله تعالى في جميع ذلك موكولاً إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثني محمد بن عبدالله الأنصاري قال : حدثنا صرد بن أبي المنازل قال : سمعت حبيباً المالكي قال : قال رجل لعمران بن حصين : يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن ! فغضب عمران وقال للرجل : أوجدتم في كل أربعين درهماً درهماً ومن كل كذا وكذا شاة شاة ومن كذا وكذا بعيراً كذا وكذا ، أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا ، قال : فعمن أخذتم هذا ؟ أخذتموه عنا وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذكر أشياء نحو هذا . فمما نص الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فنصّ على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائهما تأكيداً وتبييناً . ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } إلى قوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] ، فالأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة والزرع والثمر على اختلاف من الفقهاء في بعض ذلك ، وقد ذكر بعض صدقة الزرع والثمر في سورة الأنعام .
وأما المقدار فإن نصاب الوَرِقِ مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون ديناراً ، وقد رُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما الإبل فإن نصابها خمس منها ، ونصاب الغنم أربعون شاة ، ونصاب البقر ثلاثون . وأما المقدار الواجب ففي الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر إذا بلغ النصاب ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي أربعين شاةٍ شاةٌ ، وفي ثلاثين بقر تبيعٌ . وقد اختلف في صدقة الخيل ، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله . وأما الوقت فهو حَوْلُ الحَوْلِ على المال مع كمال النصاب في ابتداء الحول وآخره . وأما من تجب عليه فهو أن يكون المالك حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً صحيح الملك لا دين عليه يحيط بماله أو بما لا يفضل عنه مائتا درهم . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ، ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ، ولَيْسَ فيما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن داود المهري قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فإذا كانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَم وَحَالَ عَلَيْها الحَوْلُ ففيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، ولَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ في الذَّهَبِ حَتّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِيناراً فإذا كانت لَكَ عِشْرُونَ دِينَاراً وحَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ ففيها نِصْفُ دِينَارٍ ، ولَيْسَ في مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ " .
وهذا الخبر في الحول وإن كان من أخبار الآحاد فإن الفقهاء قد تلقّته بالقبول واستعملوه ، فصار في حَيِّزِ المتواتر الموجب للعلم ، وقد رُوي عن ابن عباس في رجل ملك نصاباً : " أنه يزكيه حين يستفيده " وقال أبو بكر وعلي وعمر وابن عمر وعائشة : " لا زكاة فيه حتى يَحُولَ عليه الحَوْلُ " . ولما اتفقوا على أنه لا زكاة عليه بعد الأداء حتى يحول عليه الحول علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق بالمال دون الحول وأنه بهما جميعاً يجب ، وقد استعمل ابن عباس خبر الحول بعد الأداء ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه قبل الأداء وبعده بل نفى إيجاب الزكاة في سائر الأموال نفياً عاماً إلا بعد حَوْلِ الحول ، فوجب استعماله في كل نصاب قبل الأداء وبعده . ومع ذلك يحتمل أن لا يكون ابن عباس أراد إيجاب الأداء بوجود ملك النصاب ، وأنه أراد جواز تعجيل الزكاة ؛ لأنه ليس في الخبر ذكر الوجوب .
واخْتُلِفَ فيما زاد على المائتين من الوَرِقِ ، فرُوي عن عليّ وابن عمر فيما زاد على المائتين بحسابه ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي . ورُوي عن عمر أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهماً ، وهو قول أبي حنيفة . ويحتج من اعتبر الزيادة أربعين بما رَوَى عبدالرّحمن بن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم : " وَلَيْسَ فيما زَادَ عَلَى المِائَتي الدِّرْهَم شَيءٌ حَتّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً " وحديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم : " هَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَماً وَلَيْسَ فيما دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ " فوجب استعمال قوله : " في كل أربعين درهماً درهم " على أنه جعله مقدار الواجب فيه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " وإذا كَثُرَتِ الغَنَمُ ففي كُلِّ مائَةِ شَاةٍ شَاةٌ " . ويدل عليه من جهة النظر أن هذا مال له نصاب في الأصل فوجب أن يكون له عفو بعد النصاب كالسوائم ، ولا يلزم أبا حنيفة ذلك في زكاة الثمار لأنه لا نصاب له في الأصل عنده ، وأبو يوسف ومحمد لما كان عندهما أن لزكاة الثمار نصاباً في الأصل ثم لم يجب اعتبار مقدار بعده بل الواجب في القليل والكثير كذلك الدراهم والدنانير ؛ ولو سلّم لهما ذلك كان قياسه على السوائم أوْلى منه على الثمار ، لأن السوائم يتكرر وجوب الحق فيها بتكرر السنين وما تخرج الأرض لا يجب فيه الحق إلا مرة واحدة ، ومرور الأحوال لا يوجب تكرار وجوب الحق فيه .
فإن قيل : فواجب أن يكون ما يتكرر وجوب الحق فيه أوْلى بوجوبه في قليل ما زاد على النصاب وكثيره مما لا يتكرر وجوب الحق فيه . قيل له : هذا منتقض بالسوائم ؛ لأن الحق يتكرر وجوبه فيها ولم يمنع ذلك اعتبار العفو بعد النصاب ، ومما يدل على أن قياسه على السوائم أْوْلى من قياسه على ما تخرجه الأرض أن الدين لا يسقط العشر وكذلك موت ربّ الأرض ويسقط زكاة الدراهم والسوائم ، فكان قياسها عليها أوْلى منه على ما تخرجه الأرض .
واختلف فيما زاد من البقر على أربعين ، فقال أبو حنيفة : " فيما زاد بحسابه " . وقال أبو يوسف ومحمد : " لا شيء فيه حتى يبلغ ستين " ، ورَوَى أسد بن عمر عن أبي حنيفة مثل قولهما . وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي كقول أبي يوسف ومحمد . ويحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وذلك عموم في سائر الأموال ، لا سيّما وقد اتفق الجميع على أن هذا المال داخل في حكم الآية مراد بها ، فوجب في القليل والكثير بحق العموم . وقد رَوَى عنه الحسن بن زياد أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين فتكون فيها مُسِنّة وربع مُسِنّة ؛ ويحتج لقوله المشهور أنه لا يخلو من إثبات الوقص تسعاً فينتقل إليه بالكسر ، وليس ذلك في فروض الصدقات أو بجعل الوقص تسعة عشر فيكون خلاف أوْقَاصِ البقر ، فلما بطل هذا وهذا ثبت القول الثالث وهو إيجابه في القليل والكثير من الزيادة . ورُوي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة أنهم كانوا يقولون : " في خمس من البقرة شاة " وهو قول شاذّ لاتّفاق أهل العلم على خلافه وورود الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببطلانه . وروى عاصم بن ضمرة عن عليّ : " في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه " وقد أنكره سفيان الثوري وقال : عليّ أعلم من أن يقول هذا ، هذا من غلط الرجال . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالآثار المتواترة أن فيها ابنة مخاض ، ويجوز أن يكون علي بن أبي طالب أخذ خمس شِياه عن قيمة بنت مخاض فظنّ الراوي أن ذلك فرضها عنده .
واخْتُلِفَ في الزيادة على العشرين ومائة من الإبل ، فقال أصحابنا جميعاً : " تستقبل الفريضة " ، وهو قول الثوري . وقال ابن القاسم عن مالك : " إذا زادت على عشرين ومائة واحدة فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بَنَاتِ لبون وإن شاء حقَّتَيْنِ " . وقال ابن شهاب : " إذا زادت واحد ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقّةٌ وابنتا لبون " ، يتفق قول ابن شهاب ومالك في هذا ويختلفان فيما بين واحد وعشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة . وقال الأوزاعي والشافعي : " ما زاد على العشرين والمائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حِقَّةٌ " .
قال أبو بكر : قد ثبت عن عليّ رضي الله عنه من مذهبه استيناف الفريضة بعد المائة والعشرين بحيث لا يختلف فيه ، وقد ثبت عنه أيضاً أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل فقيل له : هل عندكم شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما عندنا إلا ما عند الناس وهذه الصحيفة ، فقيل له : وما فيها ؟ فقال : فيها أسنان الإبل أخَذْتُها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولما ثبت قول علي باستيناف الفريضة وثبت أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي صلى الله عليه وسلم صار ذلك توقيفاً لازماً لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم . وأيضاً قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم استينافُ الفريضة بعد المائة والعشرين . وأيضاً غير جائز إثبات هذا الضرب من المقادير إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق ، فلما اتفقوا على وجوب الحقَّتَيْن في المائة والعشرين واختلفوا عند الزيادة لم يَجُزْ لنا إسقاطُ الحقّتين لأنهما فرض قد ثبت بالنقل المتواتر واتفاق الأمة إلا بتوقيف أو اتفاق .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في آثار كثيرة : " وإذا زَادَتِ الإبِلُ على مائِةٍ وعِشْرِينَ ففي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وفي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ " . قيل له : قد اختلفت ألفاظه ، فقال في بعضها : " وإذا كثرت الإبل " ومعلوم أن الإبل لا تكثر بزيادة الواحدة ، فعلم أنه لم يرد بقوله : " وإذا زادت الإبل " إلا زيادة كثيرة يطلق على مثلها أن الإبل قد كثرت بها ، ونحن قد نوجب ذلك عند ضَرْبٍ من الزيادة الكثيرة وهو أن تكون الإبل مائة وتسعين فتكون فيها ثلاث حِقَاقٍ وبنت لبون . وأيضاً فموجب تغيير الفرض بزيادة الواحد لا يخلو من أن يغيره بالواحدة الزائدة فيوجب فيها وفي الأصل ، أو يغيره فيوجب في المائة والعشرين ولا يوجب في الواحدة الزائدة شيئاً ، فإن أوجب في الزيادة مع الأصل ثلاث بنات لبون فهو لم يوجب في الأربعين ابنة لبون وإنما أوجبها في أربعين وفي الواحدة ، وذلك خلاف قوله صلى الله عليه وسلم . وإن كان إنما يوجب تغيير الفرض بالواحدة فيجعل ثلاث بنات لبون في المائة والعشرين والواحدة عَفْوٌ فقد خالف الأصول ، إذ كان العفو لا يغير الفرض .
واختلف في فرائض الغنم ، فقال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي : " في مائتين وشاة وثلاث شِيَاهٍ إلى أربعمائة فتكون فيها أربع شياه " . وقال الحسن بن صالح : " إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاة وشاة ففيها أربع شياه ، وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه " ، وروَى إبراهيم نحو ذلك . وقد ثبتت آثار مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الأول دون قول الحسن بن صالح .
واختلف في صدقة العوامل من الإبل والبقر ، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي : " ليس فيها شيء " . وقال مالك والليث : " فيها صدقة " . والحجة للقول الأول ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال : حدثنا حَمُّوَيْهِ قال : حدثنا سوار بن مصعب عن ليث عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَيْسَ في البَقَرِ العَوَامِلِ صَدَقَةٌ " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن عليّ رضي الله عنه قال زهير : أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وفي البَقَرِ في كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ وفي الأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ولَيْسَ على العَوَامِلِ شَيْءٌ " وأيضاً رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيْسَ في النَّخَّةِ ولا في الكَسْعَةِ ولا في الجَبْهَةِ صَدَقَةٌ " . وقال أهل اللغة : النخة البقر العوامل والكسعة الحمير والجبهة الخيل . وأيضاً فإن وجوب الصدقة فيما عدا الذهب والفضة معلّقٌ بكونه مُرْصَداً للنَّماء من نسلها أو من أنفسها ، والسائمة يطلب نماؤها إما من نسلها أو من أنفسها ، والعاملة غير مرصدة للنَّمَاءِ وهي بمنزلة دون الغلّة وثياب البذلة ونحوها . وأيضاً الحاجة إلى علم وجوب الصدقة في العوامل كهي إلى السائمة ، فلو كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف في إيجابها في العاملة لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في السائمة ، فلما لم يَرِدْ بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة نقلٌ مستفيضٌ علمنا أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف في إيجابها ، بل قد وردت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في نفي الصدقة عنها ، منها ما قدمناه ومنها ما رَوَى يحيى بن أيوب عن المثنَّى بن الصباح عن عمرو بن دينار أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَيْسَ في ثَوْرِ المُثِيرَةِ صَدَقَةٌ " . وروي عن عليّ وجابر بن عبدالله وإبراهيم ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز والزهري نَفْيُ صدقة البقر العوامل ، ويدل عليه حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأبي بكر الصديق كتاباً في الصدقات : " هذه فَرِيضَةُ الصدقة التي فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، فمن سُئلها من المؤمنين على وجهها فلْيُعْطِهَا ومن سُئل فوقها فلا يُعْطِهِ : صَدَقَةُ الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاة " ، فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة لأنه ذكر السائمة ونفى الصدقة عما عداها .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " في خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاةٌ " وذلك عموم يوجب في السائمة وغيرها . قيل له : يخصه ما ذكرنا ، ولم يقل بقول مالك في إيجابه الصدقة في البقر العوامل أحدٌ قبله .
فصل
قال أصحابنا وعامة أهل العلم : " في أربعين شاةٍ مسانّ وصغار مسنّة " . وقال الشافعي : " لا شيء فيها حتى تكون المسانُّ أربعين ثم يُعتدّ بعد ذلك بالصغار " ؛ ولم يسبقه إلى هذا القول أحد . وقد رَوَى عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم صدقات المواشي ، فقال فيه : " وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وكَبِيرُهَا " ولم يفرق بين النصاب وما زاد . وأيضاً الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ " ، ومتى اجتمع الصغار والكبار أُطلق على الجميع الاسم فيقال : عنده أربعون شاة ، فاقتضى ذلك وجوبها في الصغار والكبار إذا اجتمعت . وأيضاً لم يختلفوا في الاعتداد بالصغار بعد النصاب لوجود الكبار معها ، فكذلك حكم النصاب .
واخْتُلِفَ في الخيل السائمة ، فأوجب أبو حنيفة فيها إذا كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً في كل فرس ديناراً ، وإن شاء قَوَّمها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم . وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي : " لا صدقة فيها " . ورَوَى عروة السعديُّ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " في الخَيْلِ السَّائِمَةِ في كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ " ، وحديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخيل وقال : " هي ثَلاَثَةٌ : لرَجُلٍ أجْرٌ ، ولآخَرَ سِتْرٌ ، وعلى رَجُلٍ وِزْرٌ ، فأما الَّذِي هِى لَهُ سِتْرٌ فالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّماً وتَجَمُّلاً ، ولا يَنْسَى حَقَّ الله في رِقَابِهَا ولا في ظُهُورِهَا " ؛ فأثبت في الخيل حقّاً . وقد اتفقوا على سقوط سائر الحقوق سوى صدقة السوائم ، فوجب أن تكون هي المرادة .
فإن قيل : يجوز أن يريد زكاة التجارة . قيل له : قد سئل عن الحمير بعد ذكره الخيل فقال : " ما أَنْزَلَ الله عليَّ فيِهَا إِلاَّ الآيَةَ الجِامِعَةَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } " [ الزلزلة : 7 و 8 ] " فلم يوجب فيها شيئاً ، ولو أراد زكاة التجارة لأوْجَبَهَا في الحمير .
فإن قيل : في المال حقوق سوى الزكاة ، فيجوز أن يكون أراد حقّاً غيرها ؛ والدليل عليه حديث الشعبيّ عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وتلا قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم } [ البقرة : 177 ] . وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ذكر الإبل فقال : " إِنَّ فِيهَا حَقّاً " فسئل عن ذلك ، فقال : " إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَةُ سَمِينِهَا " ، فجائز أن يكون الحق المذكور في الخيل مثل ذلك . قيل له : لو كان كذلك لما اختلف حكم الحمير والخيل ؛ لأن هذا الحقّ لا يختلفان فيه ، فلما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما دل على أنه لم يُرِدْ به ذلك وأنه إنما أراد الزكاة . وعلى أنه قد رُوي أن الزكاة نسخت كل حقّ كان واجباً ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن سعيد قال : حدثنا المسيب بن شريك عن عبيد المُكَتِّب عن عامر عن مسروق عن علي قال : " نسخت الزكاة كل صدقة " . وأيضاً قد رُوي أن أهل الشام سألوا عمر أن يأخذ الصدقة من خيلهم ، فشاور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له علي : " لا بأس ما لم تكن جزية عليهم " فأخذها منهم ؛ وهذا يدل على اتفاقهم على الصدقة فيها لأنه شاور الصحابة ، ومعلوم أنه لم يشاورهم في صدقة التطوع ، فدل على أنه أخذها واجبة بمشاورة الصحابة ؛ وإنما قال علي : " لا بأس ما لم تكن جزية عليهم " لأنه لا يؤخذ على وجه الصَّغَارِ بل على وجه الصدقة .
واحتجَّ من لم يوجبها بحديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ " ، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ ولا في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ " ، وهذا عند أبي حنيفة على خيل الركوب ، ألا ترى أنه لم يَنْفِ صدقتها إذا كانت للتجارة بهذا الخبر ؟ .
واخْتُلِفَ في زكاة العسل ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي : " إذا كان في أرض العُشْرِ ففيه العُشْرُ " . وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي : " لا شيء فيه " ، ورُوي عن عمر بن عبدالعزيز مثله ، رُوي عنه الرجوع عن ذلك ، وأنه أخذ منه العشر حين كشف عن ذلك وثبت عنده ما رُوي فيه . ورَوَى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه قال : " بلغني أن في العسل العشر " ؛ قال ابن وهب : وأخبرني عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد وربيعة بذلك . وقال يحيى إنه سمع من يقول فيه العشر في كل عام بذلك مضت السُّنَّة .
قال أبو بكر : ظاهر قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يوجب الصدقة في العسل ، إذ هو من ماله ، والصدقة إن كانت مجملة فإن الآية قد اقتضت إيجاب صدقة ما ، وإذا وجبت الصدقة كانت العشر إذْ لا يوجب أحد غيره . ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحرّاني قال : حدثنا موسى بن أعْيَنَ عن عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له ، وسأله أن يحمي وادياً له يقال له سَلْبَة فَحَمَى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي ؛ فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك ، فكتب عمر أن أدّى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سَلْبَة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن أحمد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا وكيع عن سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المُتَعيّ قال : قلت : يا رسول الله إن لي نحلاً ، قال : " أَدِّ العُشْرَ " قال : فقلت : يا رسول الله احمها لي ! فحماها لي . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا معلّى قال : أخبرني عبدالله بن عمرو عن عبدالكريم عن عمرو بن شعيب قال : كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز يأمرنا أن نعطي زكاة العسل ونحن بالطواف العشر ، يُسْنِدُ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن يعقوب إمام مسجد الأهواز قال : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني قال : حدثنا أبو حفص العبدي قال : حدثنا صدقة عن موسى بن يسار عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في كُلِّ عَشْرَةِ أَزْقَاقٍ مِنَ العَسَلِ زِقٌّ " . ولما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في العسل العُشْرَ دلّ ذلك على أنه أجراه مجرى الثمر وما تخرجه الأرض مما يجب فيه العشر ، فقال أصحابنا : إذا كان في أرض العشر ففيه العشر وإذا كان في أرض الخراج فلا شيء فيه لأن الثمرة في أرض الخراج لا يجب فيها شيء ، وإذا كان في أرض العشر يجب فيها العشر فكذلك العسل . وقد استقصينا القول في هذه المسائل ونظائرها من مسائل الزكاة في شرح مختصر أبي جعفر الطحاوي ، وإنما ذكرنا هنا جُمَلاً منها بما يتعلق الحكم فيه بظاهر الآية .
وقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةٌ } يدل على أن أخْذَ الصدقات إلى الإمام ، وأنه متى أدّاها من وجبت عليه إلى المساكين لم يجزه لأن حقَّ الإمام قائمٌ في أخذها فلا سبيل له إلى إسقاطه . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه العمال على صدقات المواشي ويأمرهم بأن يأخذوها على المياه في مواضعها ، وهذا معنى ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم لوفد ثَقِيفَ بأن لا يحشروا ولا يعشّروا ، يعني لا يكلَّفون إحضار المواشي إلى المصدّق ولكن المصدّق يدور عليهم في مياههم ومظانّ مواشيهم فيأخذها منهم ، وكذلك صدقة الثمار . وأما زكوات الأموال فقد كانت تُحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، ثم خطب عثمان فقال : " هذا شهر زكواتكم فمن كان عليه دَيْنٌ فَلْيؤدّه ثم ليزكِّ بقية ماله " فجعل لهم أداءها إلى المساكين ، وسقط من أجل ذلك حق الإمام في أخْذِها لأنه عقد عقده إمام من أئمة العدل ، فهو نافذ على الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم : " ويَعْقدُ عَلَيْهم أوَّلُهُمْ " ، ولم يبلغنا أنه بعث سعاة على زكوات الأموال كما بعثهم على صدقات المواشي والثمار في ذلك ؛ لأن سائر الأموال غير ظاهرة للإمام ، وإنما تكون مخبوَّةٌ في الدور والحوانيت والمواضع الحريزة ، ولم يكن جائزاً للسعاة دخول أحرازهم ولم يجز أن يكلّفوهم إحضارها كما لم يكلفوا إحضار المواشي إلى العامل ، بل كان على العامل حضور موضع المال في مواضعه وأخْذ صدقته هناك ، فلذلك لم يبعث على زكوات الأموال السعاة ، فكانوا يحملونها إلى الإمام وكان قولهم مقبولاً فيها . ولما ظهرت هذه الأموال عند التصرف بها في البلدان أشبهت المواشي فنُصب عليها عمال يأخذون منها ما وجب من الزكاة ؛ ولذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله أن يأخذوا مما يمرّ به المسلم من التجارات من كل عشرين ديناراً نِصْفَ دينار ومما يمر به الذمّي يؤخذ منه من كل عشرين ديناراً دينارٌ ثم لا يؤخذ منه شيء إلا بعد حَوْلٍ ، أخبرني بذلك من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . وكتب عمر بن الخطاب إلى عماله أن يأخذوا من المسلم ربع العشر ومن الذميّ نصف العشر ومن الحربيّ العشر ، وما يؤخذ من المسلم من ذلك فهو الزكاة الواجبة تعتبر فيها شرائط وجوبها من حَوْلٍ ونصاب وصحة ملك ، فإن لم تكن الزكاة قد وجبت عليه لم تؤخذ منه ، فاحتذى عمر بن الخطاب في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صدقات المواشي وعشور الثمار والزروع ، إذْ قد صارت أموالاً ظاهرة يختلف بها في دار الإسلام كظهور المواشي السائمة والزروع والثمار ، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة ولا خالفه ، فصار إجماعاً مع ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن عبدالعزيز الذي ذكرناه .
فإن قيل : رَوَى عطاء بن السائب عن جرير بن عبدالله عن جده أبي أمّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ على المُسْلِمِينَ عُشُورٌ إِنّما العُشُورُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ " ، وروى حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد ثقيف : " لا تُحَشِّرُوا ولا تُعَشِّرُوا " ، وروى إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن عمرو بن حُرَيْث عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مَعْشَرَ العَرَبِ احْمَدُوا الله إِذْ دَفَعَ عَنْكُمُ العُشُورَ " ، ورُوي أن مسلم بن يسار قال لابن عمر : أكان عمر يعشر المسلمين ؟ قال : لا . قيل له : ليس المراد بذكر هذه العشور الزكاة ، وإنما هو ما كان يأخذه أهل الجاهلية من المكس ، وهو الذي أُريد في حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرّحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ " يعني عاشراً ، وإياه عَنَى الشاعر بقوله :
* وفي كُلِّ أَمْوَالِ العِرَاقِ إِتَاوَةٌ * وفي كُلِّ ما بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ *
فالذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم من العشر هو المكس الذي كان يأخذه أهل الجاهلية ، فأما الزكاة فليست بمكس وإنما هو حقّ وجب في ماله يأخذه الإمام فيضعه في أهله كما يأخذ صدقات المواشي وعشور الأرضين والخراج . وأيضاً يجوز أن يكون الذي نفى أخذه من المسلمين ما يكون مأخوذاً على وجه الصَّغَارِ والجزية ؛ ولذلك قال : " إنَّما العُشُورُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ " يعني ما يؤخذ على وجه الجزية .
ومن الناس من يحتجُّ للفرق بين صدقات المواشي والزروع وبين زكوات الأموال أنه قال في الزكاة : { وآتوا الزكاة } [ البقرة : 43 ] ولم يشرط فيها أخْذَ الإمام لها ، وقال في الصدقات : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } ، وقال : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } إلى قوله : { وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا } ، ونصب العامل عليها يدل على أنه غير جائز له إسقاط حقّ الإمام في أخْذِها ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُمْ " فإنما شرط أخذه في الصدقات ولم يذكر مثله في الزكوات . ومن يقول هذا يذهب إلى أن الزكاة وإن كانت صدقة فإن اسم الزكاة أخصُّ بها والصدقة اسم يختص بالمواشي ونحوها ، فلما خصَّ الزكاة بالأمر بالإيتاء دون أخْذِ الإمام وأمر في الصدقة بأن يأخذها الإمام وجب أن يكون أداء الزكوات موكولاً إلى أرباب الأموال إِلاّ ما يمرّ به على العاشر فإنه يأخذها باتفاق السلف ويكون أخْذُ الصدقات إلى الأئمة .
قوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } . رَوَى شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل بصدقة ماله صلى عليه ، قال : فأتيته بصدقة مال أبي فقال : " اللَّهُمَّ صَلِّ على آل أبي أَوْفَى " . وروى ثابت بن قيس عن خارجة بن إسحاق عن عبدالرّحمن بن جابر عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغضُونَ فَإِنْ جَاؤُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وخَلُّوا بَيْنَهُمْ وبَيْنَ ما يَبْغُونَ ، فإِنْ عَدَلُوا فلأَنْفُسِهِمْ وإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ ، وأَرْضُوهُمْ فإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ ولِيَدْعُوا لَكُمْ " . وروى سلمة بن بشير قال : حدثنا البختري قال : أخبرني أبي أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَعْطَيْتُمُ الزَّكَاةَ فَلا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا " قالوا : وما ثوابها ؟ قال : " يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنماً ولا تَجْعَلْهَا مَغْرَماً " . وهذه الأخبار تدل على أن المراد بقوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } هو الدعاء .
وقوله : { سَكَنٌ لَهُمْ } يعني والله أعلم : مما تسكن قلوبهم إليه وتطيب به نفوسهم ، فيسارعون إلى أداء الصدقات الواجبة رغبةً في ثواب الله وفيما ينالونه من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم ؛ وكذلك ينبغي لعامل الصدقة إذا قبضها أن يَدْعُوَ لصاحبها اقتداءً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .