قوله تعالى : { إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم } الآية{[1169]} :
استثناء لم يأت من قبل القدرة عليهم ، فيقتضي إخراجهم من جملة من وجب عليهم الحد ، لأن الاستثناء حقيقة ذلك ، مثل قوله تعالى : { إلاّ آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهُم أَجمَعِين إلاّ امْرَأَتَهُ{[1170]} } ، فأخرج آل لوط من المهلكين ، وأخرج المرأة في الاستثناء من الاستثناء من جملة المنجين ، وقال تعالى : { فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعونَ إلاّ إبْلِيسَ }{[1171]} فأخرجه من جملة الساجدين ،
نعم ، قد قال في السرقة : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصلَحَ فَإنَّ اللهَ يَتوبُ عَلَيْهِ{[1172]} } ، ولم يسقط حد السرقة ، لأنه لم يقع الاستثناء من جملة من أوجب عليهم الحدود ، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم ، وفي آيتي المحاربين ذكر استثناء يوجب إخراجهم من الجملة .
وقوله : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ } : يصلح أن يكون كلاماً مبتدأ مستقلاً بنفسه ، من غير أن يفتقر إلى تضمين غيره ، فلم نجعله مضمناً لغيره إلا بدلالة . وقوله : { إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم } : مفتقر في صحة إلى ما قبله ، فوجب تعليقه عليه .
ثم إذا استقل الاستثناء باقتضاء إسقاط ما اختص بقطع الطريق ، لم يحتج إلى تعليقه بغيره ، فلا جرم كان ما يتعلق بالمذهب ، أن ما يتعلق بحق الآدمي قصاصاً كان أو غرماً ، لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه .
ولما كان قوله : { يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسعَونَ في الأَرْضِ فَسَاداً } على ما في الصحراء أو البلد ، استوى حكم قطع الطريق في البلد والمصر جميعاً ، ومن فرق فإنما يفرق لا بحكم اللفظ ، بل بمعنى يتوهمه فارقاً وهو غالط فيه .
ولما ثبت للشافعي أن الحكم ليس متعلقاً بمجرد الفساد في الأرض ، ولا بمجرد قطع الطريق ، لكن تفاوت العقوبات على حسب تفاوت الجرائم ، فالردء المعاون في قطع الطريق ، لا يلزمه عقوبة من باشر القتل وأخذ المال ، وتقدير الكلام : يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال ، فليس لمن لم يفعل من ذلك شيئاً أن يدخل في جملتهم{[1173]} .
قال تعالى في حق الكفار : { قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَا قَد سَلَف{[1174]} } ، وقال في المحاربين : { إلاّ الّذينَ تَابُوا من قبلِ أن تقدِروا علَيهِم ، فاعلمُوا أن اللهَ غفورٌ رحِيم{[1175]} } .
والذي ذكر من أن الآية نزلت في شأن العرنيين لا يحصلون{[1176]} ما يقولون ، لأن العرنيين شملت أعينهم مع قطع أيديهم وأرجلهم ، وتركوا في الحرة حتى ماتوا ، ويستحيل نزول الآية بالأمر بقطع من قطع ، وقتل من قتل . وقال ابن سيرين : كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود ، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية .
والذين اعترفوا باختصاص الآية بقطاع الطريق من المسلمين ، اختلفوا في أشياء أخر وراء ما ذكرناه . فقال قائلون من العلماء بما رووه عن ابن عباس : يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال فقط ، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل ، ولم يفعلوا أكثر من ذلك ، فلم يثبتوا تخييرا ، وهو مذهب الشافعي .
واختلفت الروايات عن أبي حنيفة : ففي رواية أنه إذا حارب فقتل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب . فإن هو قتل ولم يأخذ المال نفي ، وهذا يقارب الأول ، إلا في زيادة قطع اليد والرجل مضموماً إلى الصلب والقتل . وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ، قيل إن الإمام فيه بالخيار ، إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه ، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله ،
وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ولم يصلبه ، فإن أخذ مالاً ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن لم يأخذ مالاً ولم يقتل ، عزر ونفي من الأرض ، ونفيه حبسه . وفي رواية أخرى : أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيراً ، وهو قول الحسن في رواية وسعيد بن جبير . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن اقتصروا على القتل قتلوا ، وإن اقتصروا على أخذ المال ، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف . وإن أخذوا المال وقتلوا ، فأبو حنيفة يقول : الإمام يتخير في أربع جهات : إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم ، وإن شاء قطع وصلب ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قتل وترك القطع ، وقال آخرون : بل يخير الإمام في هذه الأحكام بمجرد خروجهم ، وهو قول ابن المسيب ومجاهد والحسن ، وهو قول مالك .
فسوى مالك بين أن يقتلوا أو لا يقتلوا ، أو يأخذوا المال أو لا يأخذوا ، وخير الإمام إن شاء قتل ، وإن شاء قطع خلافاً ، وإن شاء نفي ، ونفيه حبسه ، فهذا ما ذكره ، ووافق في أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا ، لم يجز للإمام أن ينفيه ، ويترك قطع يده ورجله . وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال ، لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل والصلب .
ولو كان الأمر على ما قالوه في التخيير ، لكان التخيير ثابتاً إذا أخذوا المال وقتلوا ، أو أخذوا المال ولم يقتلوا ، فكأنه يرى التخيير في إجراء حكم القاتل على غير القاتل ، وإجراء حكم القطع على غير آخذ المال ،
أما إسقاط حكم القطع عن آخذ المال أو القتل عن القاتل ، فلا سبيل إليه أصلا . فالتخيير الثابت شرعاً ، وهو أن يتخير بين أنواع ، كالتخيير في حق المشركين ، يتخير بين أنواع ، فمنها الأخف ، ومنها الأغلظ ، فأما أن يقال : إن عقوبة المجرم لا تسقط عنه ، ولكن غيره يلحق به ، فهذا ليس من التخيير في شيء .
نعم ، اعتقد مالك أن مجرم قطع الطريق كالقتل ، قال : ولذلك قال الله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفساً بِغَيْرِ نَفْسِ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً{[1177]} } ، فدل أن الفساد في الأرض بمثابة قتل النفس .
والذي ذكره واعتقده فاسد ، فإن ما ذكره لا يوجب إجراء حكم الساعي بالفساد ، على ما ذكر مجرى الساعي بالفساد ، إذا ضم إلى سعيه في الأرض بالفساد القتل وأخذ المال ، وقد وجد من القاتل وآخذ المال ما لم يوجد من الذي لم يقتل . . من قطع الطريق والفساد في الأرض والزيادة فلم سوى بينهما ؟
ولو استوى حكمهما ، لم يجز إسقاط القتل عنه ، كما لم يجز إسقاطه عمن قتل ، وإسقاط القطع عمن أخذ المال ، وهذا لا جواب عنه .
فإن قيل : القاتل لا يختص ، قلنا غلطتم ، فإن لقطع الطريق أثراً في تغليظ جريمته ، حتى لا تسقط بعفو المستحق ، ويزداد بقطع الطريق قطع اليد والرجل معه ، فلم يسقط . نعم إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم ، سقط ما يتعلق بقطع الطريق ، وبقي ما تعلق بحق الآدمي ، ولأن المراد بقوله : { أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ } ، أي فساد يجوز القتل معه ، أو قتله في حالة إظهار الفساد على وجه الدفع ، وإنما الكلام في الذي صار في يد الإمام ، فقوله : { أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ } ، محمول على هذا ، وإلا فلو كان الفساد في الأرض عديل القتل ، ما جاز إسقاط القتل بالنفي ، كما لا يجوز إذا قتل أن يقتصر في حقه على النفي .
{ إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } : ومعلوم أن الكفار لا يختلف حظهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة ، كما تسقط قبل القدرة ، فالمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة ، والمذكور في الآية من لم يستحق القتل .
وفي الآية نفي من لم يتب قبل القدرة ، والمرتد لا ينفى ، فعلمنا أن الآية حكمها جار في أهل الملة . والمرتد لا تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل ، ولا يصلب أيضاً ، فدل ذلك على أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد .