الآية السادسة : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ التَّفَثِ :
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا شِعْرًا ، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا ، وَتَكَلَّمَ السَّلَفُ عَلَيْهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ : التَّفَثُ حَلْقُ الشَّعْرِ ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ ، وَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ ؛ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : حَلْقُ الرَّأْسِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الرَّابِعُ : رَمْيُ الْجِمَارِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ : إزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ ، من تَقْلِيمِ أَظْفَارٍ ، وَأَخْذِ شَعْرٍ ، وَغُسْلٍ ، وَاسْتِعْمَالِ طِيبٍ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ .
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَلَوْ صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً ، لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ فَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ تَتَبَّعْت التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَدْ قَالَ : إنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، إلَّا النِّكَاحُ ، وَلَمْ يَجِيءَ فِيهِ بِشِعْرٍ يُحْتَجُّ بِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ : التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالتَّقْصِيرُ ، وَالذَّبْحُ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ .
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ ، وَلَا أُرَاهُ أَخَذَهُ إلَّا من قَوْلِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ قُطْرُبٌ : تَفِثَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَ وَسَخُهُ ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ :
حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا *** وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
وَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَى هَذَا الْمَقَامِ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ أَشَارَ إلَيْهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ ، وَمَا ذَكَرَهُ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ ، وَهَذِهِ صُورَةُ قَضَاءِ التَّفَثِ لُغَةً .
وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ ، وَتَطَهَّرَ وَتَنَقَّى ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ ، فَيَقْضِي تَفَثَهُ .
وَأَمَّا وَفَاءُ نَذْرِهِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ النَّذْرَ كُلُّ مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ أَوْ الْتَزَمَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ بُكَيْر : إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الْعَقْلُ ، فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ ، لِأَجَلِ النَّذْرِ ؛ يَعْنِي بِالْعَقْلِ الدِّيَةَ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِرَمْيِ الْجِمَارِ ، وَبِنَحْرِ الْهَدْيِ ، وَيَجْتَنِبُ الْوَطْءَ وَالطِّيبَ ، حَتَّى تَقَعَ الزِّيَارَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } :
هَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ ؛ وَبِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْمَالِهِ وَنِهَايَةُ أَرْكَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } :
وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْعَتِيقِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ من عَتُقَ ؛ أَيْ قَدُمَ ؛ إذْ هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَتَقَ ، أَيْ خَلُصَ من الْجَبَابِرَةِ عَنْ الْهَوَانِ إلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ من قَبْلُ .