قَوْله تَعَالَى : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا من وَرَقِ الْجَنَّةِ } رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ آدَم من الشَّجَرَةِ سُلِخَ عَنْ كِسْوَتِهِ ، وَخُلِعَ من وِلَايَتِهِ ، وَحُطَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى سَوْأَتِهِ مُنْكَشِفَةً قَطَعَ الْوَرَقَ من الثِّمَارِ وَسَتَرَهَا ، وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ . وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بِأَيِّ شَيْءٍ سَتَرَهَا ؟ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ من نَفْسِهِ مُنْكَشِفًا ، مِنْهُمْ : الْقَدَرِيَّةُ ، وَبِهِ قَالَ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا اسْتِمْرَارًا عَلَى عَادَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ فَإِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيَحْظُرُ وَيُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ وَهِيَ أَقْضَى الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَتَرَهَا من ذَاتِ نَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ سَتَرَهَا عَادَةً . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَعَرَّفَهُ الْأَحْكَامَ فِيهَا ، وَأَسْجَلَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِمَّنْ سَتَرَهَا ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ يَنْكَشِفُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ عَلَيْهِ . ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَحَلِّهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آدَم سَتَرَهَا من زَوْجِهِ بِأَمْرٍ جَازِمٍ فِي شَرْعِهِ ، أَوْ بِأَمْرِ نَدْبٍ ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَأَى سَتْرَهَا إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ من شَرْعِهِ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ . وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، { وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، وَقَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ } . وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَأْتِ من ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرٍ من اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ عَقْلٍ ، إذْ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ اقْتِضَاءِ الْعَقْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ .