/م19
{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور} دلى الشيء تدلية أرسله إلى الأسفل رويدا رويدا لأن في الصيغة معنى التدريج أو التكثير أي فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل من الشجرة والقسم على أنه ناصح بذلك لهما به ، حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة الفاطر بما غرهما به ، والغرور الخداع بالباطل وهو مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) والغرارة ( بالفتح ) وهما بمعنى الغفلة وعدم التجربة كما حققناه بالتفصيل في تفسير{ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} ( الأنعام 111 ) واستشهدنا عليه بخداع الشيطان لآدم وحواء في مسألتنا .وقيل دلاهما حال كونهما متلبسين بغرور .والأول أظهر .
والظاهر أنهما اغترا وانخدعا بقسمه وصدقا قوله لاعتقادهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا ، واستنكر بعضهم أن يكونا صدقاه واستكبر أن يقع ذلك منهما ، وزعم أن تصديقه كفر ، ورجح هؤلاء أن يكون الغرور بتزيين الشهوة ، فإن من غرائز البشر حب التجربة واستكشاف المجهول ، والرغبة في الممنوع ، فجاء الوسواس نافخا في نار هذه الشهوات الغريزية مذكيا لها ، مثيرا للنفس بها إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه ، ولم يكن له من العزم ما يصرفه عن متابعة امرأته ، ويعتصم به من تأثير شيطانه ، كما قال تعالى في سورة طه:{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} ( طه 115 ) وفي حديث أبي هريرة في الصحيح"ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها "{[1135]} بناء على أنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة .والمراد أن المرأة فطرت على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له ، وقيل إن ذلك بنزع العرق أي الوراثة .
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة} أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مواراة عنهما ، قيل بلباس من الظفر كان يسترها فسقط عنهما ، وبقيت له بقية في رؤوس أصابعهما ، وقيل بلباس مجهول كان الله تعالى ألبسهما إياه ، وقيل بنور كان يحجبهما ولا دليل على شيء من ذلك ، ولم يصح به أثر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم .والأقرب عندي أن معنى ظهورها لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الأكل من الشجرة فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها ، فخجلا من ظهورها ، وشعرا بالحاجة إلى سترها ، وشرعا يخصفان أي يلزقان أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها من خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها فالمواراة كانت معنوية فإن كانت حسية فما ثم إلا الشعر ساتر خلقي ، وقد تظهر الشهوة ما أخفاه الشعر ، وإن لم يسقط بتأثير ذلك الأكل .ويدل على كل من هذين الوجهين فطرة الإنسان التي نزلت الآيات في شرح حقيقتها وغرائزها ، والله أعلم بمراده ، وخلقه وقدره أصدق شاهد لكتابه .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين} الاستفهام هنا للعتاب والتوبيخ ، أي وقال لهما ربهما الذي يربيهما في طور المخالفة والعصيان ، كما يربيهما في حال الطاعة والإذعان:ألم أنهكما عن تلكما الشجرة أن تقرباها وأقل لكما إن الشيطان عدو لكما دون غيركما من الخلق بين العداوة ظاهرها فلا تطيعاه يخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في المعيشة والتعب في جهاد الحياة .وهذا القول هو ما ورد في سورة طه:{ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} ( طه 117 ) والقرآن يفسر بعضه بعضا سواء ما تقدم نزوله منه وما تأخر .
/خ25