43- قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } |البقرة : 43|
الصلاة في عرف الشرع تقع على أفعال مخصوصة ، وقد اختلف في أصلها من اللغة ، فقيل : الصلاة في اللغة الدعاء ، ولذلك سميت الصلاة على الميت ، صلاة ، وليس إلا دعاء{[122]} ، ومنه قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وصلى على دنها وارتسم{[123]}
وقيل : الصلاة من الصلوين ، وهما عرقان في الردف ينحنيان في الركوع والسجود . قال الشاعر{[124]} :
تركت الرمح يعمل في صلاة *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : هي مأخوذة من صليت العود في النار إذ أعطفته وقومته ومنه قول الشاعر{[125]} :
فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلى عصاه كمستديم
وقيل : هي مأخوذة من الصلة وهي الوصلة ، وزنها على هذه علفة{[126]} مقلوبة من فعلة التي هي وصلة وهذا أضعف الأقوال{[127]} .
وقد اختلف الأصوليون هل غير الشرع هذا الاسم عن موضوعه في اللغة أم لا{[128]} ؟ فذهب كثير منهم إلى أنه باق على موضوعه من اللغة قيده الشرع بقيود وشروط وهو القاضي أبو الطيب . وذهب غيره إلى أنه في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة إلى هذا المعنى الشرعي المركب من السجود والركوع والقيام إلى غير ذلك مما هو مجموع الصلاة . وكيف ما كان قد فهم المراد |به في الشرع وأنها فعل على وجه مخصوص إلا أنه اختلف هل هو مجمل لا يفهم المراد|{[129]} من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره ؟ فلا يصح الاستدلال به على صفة ما أوجبه الشرع ؟ أم هو عام يصح الاستدلال به على ذلك ، ويجب حمله على عمومه في كل ما يتناوله الاسم من أنواع الدعاء إلا ما خصه الشرع ؟ على قولين معلومين . وإذا قلنا : إنه مجمل خرج من ذلك جواز تأخير البيان{[130]} لوقت الحاجة خلافا لمن منعه . وقال أبو الحسن علي بن محمد : يجوز أن يرجع ذلك إلى صلاة متقدمة{[131]} . وهذا الذي قاله احتمال صحيح لأن الآية مدنية . وقد أجمع العلماء على أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء . واختلف{[132]} في تاريخ الإسراء فقيل : بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة ونصف ، وقيل : قبل الهجرة بسنة ، وقيل : بعدما أوحي إليه بخمس سنين{[133]} . واختلفوا في صفة الفرض . فقيل : فرضت ركعتين{[134]} ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر . ومن رواة هذا من يقول : زيد في صلاة الحضر بالمدينة{[135]} . وقيل : فرضت أربعا أربعا فأقرت صلاة الحضر ونقصت صلاة السفر . {[136]} وقيل : فرضت أربعا في الحضر وركعتين في السفر ، وجاءت بذلك كله أحاديث صحاح{[137]} . وجاء جبريل –عليه السلام- لغد من ليلة الإسراء فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الخمس صلوات المفروضة{[138]} . واختلف هل كان قبل فرض هذه الصلوات الخمس أخرى أم لا ؟ فقال جماعة{[139]} من العلماء لم يكن صلى النبي صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من قيام الليل من غير تحديد . وحكى مكي{[140]} عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره ، ثم كان الإسراء ليلة سبعة عشر من ربيع الآخر{[141]} قبل الهجرة بسنة ، ففرضت الخمس وأم جبريل –عليه السلام- وكانت أول صلاة الظهر ، وتوجه إلى بيت المقدس{[142]} .
43- وقوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } |البقرة : 43| .
إن قيل لم خص الركوع من جميع الصلاة بعد أن أمر بالصلاة ففيه جوابان : أحدهما : أن الركوع بمعنى الصلاة ، أي صلوا مع المصلين ، والثاني : قال قوم خصه بالذكر لأن صلاة بني إسرائيل لم يكن فيها ركوع .
وفيه عند جواب ثالث : أن يكون أراد بالركوع هنا التواضع لله تعالى
والتذلل له ، والانقياد ، فيكون ركوعا لغويا لا شرعيا . ومنه قول الشاعر :
ولا تهين الفقير{[143]} علك أن *** تركع يوما والدهر قد رفعه
ويحتمل أن يقال خصص الركوع تشريفا له كقوله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان 68 } |الرحمان : 68| .
43- وقوله تعالى : { وآتوا الزكاة } |البقرة : 43| .
الزكاة في الشرع تقع على نوع من المال مخصوص . وله في اللغة معنى آخر غير إليه واختلف فيه ما هو ؟ فقيل : الزكاة في اللغة النمو ، تقول : زكا الشيء إذا نمى . وتقول العرب إذا كثرت المؤتفكات : زكا الزرع . فسمي القدر الذي أوجبه الشرع للمساكين في المال زكاة{[144]} ، وإن كان في الحقيقة نقصا لأنه يرجى فيه النمو بالبركة والأجر ، الذي يثيب الله تعالى به المزكي . وقيل : الزكاة مأخوذة من التزكية التي هي التطهير ، ومنه تزكية الشاهد ، ألا ترى أن النبي{[145]} صلى الله عليه وسلم سمى في " الموطإ " {[146]} ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس . والكلام في سائر ما في هذا اللفظ من الأحكام كالكلام في الصلاة ، ثم قال : وأما الزكاة فمجملة لا غير ، وليس كما ذكر بل الخلاف فيهما سواء . وهذا الأمر في هذه الآية ونحوها ، بالصلاة والزكاة أمر وجوب . وقد تسوغ الحجة لمن يرى وجوب صلاة الجنازة{[147]} ، ووجوب زكاة الفطر ويرى أن وجوبهما بالقرآن لا بالسنة خاصة .