قوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه } :
نزلت هذه الآية عام الحديبية حين صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام . وقد اختلف في المراد بقوله : { والمسجد الحرام } فقيل نفس المسجد خاصة ، وهو الذي ذهب إليه إسماعيل القاضي واحتج له بنص الآية {[9768]} وقال جماعة : المسجد الحرام أراد به مكة كلها ، لكن القصد بالذكر المهم المقصود من ذلك {[9769]} وقد اتفق العلماء على أن {[9770]} الناس سواء في نفس المسجد الحرام لنص الآية ، واختلفوا في سائر مكة . فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما إلى الأمر في ذلك كالأمر في المسجد الحرام وأن القادم فيها له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وعلى هذا كان الأمر في الصدر الأول ، قاله ابن سابط {[9771]} وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل منهم بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه {[9772]} فاتخذ الناس أبوابا {[9773]} . وقال علقمة بن ثعلبة {[9774]} : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعي رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى لم يسكن ، وحجة هذا القول ظاهر الآية . وقال الجمهور- منهم مالك وغيره- ليس ذلك كالمسجد الحرام ، ولأهلها الامتناع بها والاستبداد ، وعلى هذا العمل اليوم . ورجح هذا القول إسماعيل القاضي وقال : لم تزل الدور لأهل مكة غير أن المواساة تجب إذا كانت الضرورة . ولعل عمر رضي الله تعالى عنه فعل ذلك على هذا الطريق . وهذا الخلاف متركب على الخلاف في فتح مكة هل كان عنوة أم غير عنوة ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أنه كان عنوة . وذهب الشافعي وغيره إلى أنه كان أمانا والأمان كالصلح . والذين ذهبوا إلى أنه عنوة اختلفوا فقال بعضهم : من على أهلها بها فلم تقسم ولا يسبى أهلها لما عظم الله تعالى من حرمتها . وقال بعضهم إنما أقرت للمسلمين وهذا الخلاف في مذهب مالك ، وعلى هذا يأتي الخلاف في بيع دور مكة وكراءها . فمن رأى فتحها عنوة وأنها أقرت للمسلمين لم يجز شيئا من ذلك ومنعه . وعلى هذا يأتي قول عمر رضي الله عنه ومن تابعه ، وهو أحد أقوال مالك رحمه الله تعالى . ومن رأى أنها مؤمنة أو فتحت عنوة إلا أنها من بها على أهلها أجاز ذلك كله ، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم وأحد أقوال مالك . وعن مالك في المسألة قولان آخران : أحدهما الكراهية لذلك مطلقا {[9775]} والثاني الكراهية له في أيام الموسم خاصة {[9776]} فتحصل عن مالك في ذلك أربع روايات : المنع والإجازة والكراهية والكراهية في أيام الموسم خاصة {[9777]} . وقال إسماعيل القاضي : وتلول قوم في بيوت مكة ما ذكرناه ، يعني ما من كون العكف والبادي فيها سواء . قال : والقرآن يوجب أنه المسجد الذي يكون فيه قضاء النسك {[9778]} .
وقد حكي أن عمرا اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، فهذا منه إجازة للبيع . وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : " وهل ترك لنا عقيل منزلا {[9779]} " يقتضي أن لا اشتراك وأنها متملكة على التأويلين في ذلك . إذ قيل معناه أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره . وقيل معناه باع منازل بني هاشم حين هاجروا . والعاكف المقيم بمكة ، والبادي أهل البادية ومن سلكها من أهل العراق وسائر الأمصار {[9780]} .
قوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد } :
قال بعضهم التقدير : من يرد فيه إلحادا بظلم ، والباء زائدة {[9781]} . ويحتمل أن يقدر : يرد فيه بمعنى فعل يصل بحرف جر كأنه قال : ومن يأت فيه بإلحاد بظلم ، ولا تكون الباء فيه زائدة . وأصل الإلحاد الميل . وقد اختلف في المراد به ، فقيل جميع ما يقال فيه ظلم لأن كل ظلم ميل ، حتى ذكر أن عبد الله بن عمر كان يتوقى معاتبة أحد بمكة حتى يخرج إلى الحل . وقيل الإلحاد جميع المعاصي ولعظم حرمة المكان توعد الله تعالى علانية السيئة فيه ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا بمكة . إلى هذا ذهب جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وغيره {[9782]} وقال ابن مسعود : الإلحاد في الآية الشرك . وقال أيضا هو استحلال الحرام وحرمته . وقال مجاهد هو العمل السيئ {[9783]} فيه . وقال عبد الله بن عمر : وقول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد . وروي عن عمر أنه قال : هم المحتكرون للطعام بمكة . والإلحاد بالظلم يعم جميع المعاصي فينبغي أن يحمل على عمومه ولا يخصص به شيء دون شيء إلا على جهة المثال {[9784]} .