– قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها . . . } إلى قوله تعالى : { فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } :
اختلف في سببها . قيل غيرة غارتها عائشة . وقال ابن زيد وقع بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تغاير ونحوه مما شقي هو به فنزلت الآية بسبب ذلك . وقال ابن الزبير : سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أزواجه النفقة وتشططن في تكليفه منها فوق وسعه . وقال قوم سببها أنهن طلبن منه ثيابا وملابس . وقالت واحدة لو كنا عند غير النبي صلى الله عليه وسلم لكان لنا حلي ومتاع {[10319]} . واختلف هل في هذه الآية تخيير لنسائه صلى الله عليه وسلم في الطلاق أم لا ؟ فذهب بعض إلى أنه لا تخيير فيها ، قالوا وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوتها عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة وأمر الطلاق مرجوء {[10320]} فلو اخترن أنفسهن نظر {[10321]} هو كيف يسرحهن وليس فيه تخييرهن في الطلاق لأن التخيير يضمن ثلاث تطليقات وهو قد قال : { وأسرحكن سراحا جميلا } وليس مع بت الطلاق سراح جميل . فعلى هذا القول لفظ السراح لا يقتضي البتات . وقالت فرقة بل هي آية تخيير في الطلاق واخترنه فلم يعد ذلك طلاقا وهو قول عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته ، قالت قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا . وفي رواية أخرى ما خيرناه فلم يعد ذلك طلاقا {[10322]} ووجه هذا القول أن يقال إن هذا التخيير من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن فيه ذكر الطلاق فإنه كناية عن الطلاق على شرائطه . وقال بعضهم الآية وإن لم يكن فيها تخيير في الطلاق ففيها إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه لأنه يطلقهن . وهو إخبار لا خلف فيه لأن الله تعالى أمره به فأشبه التخيير في وجوب الطلاق للمخيرة باختيارها نفسها . وأما من غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك بتخيير ولا فيه شبهة منه وإنما هو عدة بالطلاق إن اختارته {[10323]} . وهذا أصح ما ينبغي أن يقال في الآية . وقد اختلف في التخيير والتمليك اختلافا كثيرا إذا لم يرد فيه نص من قرآن أو أثر . فذهب بعضهم إلى أنه لا تخيير لهما وأن المرأة لا يكون لها شيء من ذلك وإن خيرت أو ملكت {[10324]} . وذهب بعضهم إلى أن نفس التخيير والتمليك طلاق قبلته أو ردته ، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وفرق ربيعة بين التخيير والتمليك فلم ير للتحيير شيئا ورأى التمليك واحدة بائنة وهو مذهب أبي حنيفة . وذهب جماعة إلى أن التخيير والتمليك موقوف على جواب الزوجة {[10325]} .
فأما القول الأول فيرده من جهة النظر أنه لو لم يكن له تأثير لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا تأثير له . والآية وإن لم تكن تخييرا محضا فهو يشبه التخيير كما قدمنا . وأما الثاني فيرده قول عائشة رضي الله تعالى عنها : فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئا . والفرق بين التخيير والتمليك غير بين فلا معنى له . وأصحها القول الرابع وهو الذي يعضده النظر ومفهوم الآية . إلا أن الذين ذهبوا إليه اختلفوا فيما يكون قضاء الزوجة . فمنهم من جعل قضاء الزوجة في ذلك بتاتا . ومنهم من جعله واحدة بائنة ، ومنهم من جعله واحدة رجعية ، ومنهم من جعله على ما قضت به إن واحدة وإن ثلاثا ، ومنهم من جعله على ما نوى الزوج مع يمينه . وذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنه لا قضاء للمرأة في التخيير إلا بالثلاث وأن لها القضاء في التمليك بما شاءت إلا أن للزوج أن يناكر فيه وليس له أن يناكر في التخيير بعد الدخول . واحتج بعضهم للتخيير بأنه الثلاث فقال إنما كان ذلك لأن معنى التخيير التسريح . قال الله تعالى في آية التخيير { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } فمعنى التسريح البتات لأن الله تعالى قال : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وهو الطلقة الثالثة {[10326]} . والاحتجاج بالصحيح من هذه الأقوال يطول به الكتاب وليس في الآية ما يقوي الاستدلال به عليه فلا معنى للاشتغال به إذ غرضنا إنما هو سوق دليل من الآية المتكلم عليها .
– وقوله تعالى : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } :
أي إن كان عظيم همكن إنما هو التعمق من الدنيا والنيل من نعيمها . وظاهر هذه الآية عندي يدل على أن الذي سأله أزواجه صلى الله عليه وسلم إنما هو التوسع لهن في أمور الدنيا كالملابس ونحوها دون الغيرة التي ذهب إليها من ذهب .
وقوله : { أمتعكن } معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله إليه بقوله تعالى : { ومتعوهن } الآية [ البقرة : 236 ] . وأكثر الناس على أنه من المندوب إليه {[10327]} . وقالت فرقة هي واجبة {[10328]} . والسراح الجميل في الآية يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المعتقد وحسن العشرة وإن كان الطلاق بتاتا ، وقد تقدم فيه القولان جميعا .
وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللواتي نزلت فيهن الآية هن التسع نسوة أمهات المؤمنين اللاتي توفي عنهن صلى الله عليه وسلم ، خمس من قريش : عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية . وأربع من غير قريش : ميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي الخيبرية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية . واختلف هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم – عند التخيير – غير هؤلاء أم لا ؟ فقيل لم يكن ذلك ، وهو الصحيح . وقيل كانت عنده معهن بنت الضحاك العامرية واختارت نفسها فذهبت كما وقع في لفظ الآثار المدونة .
ووصف تخييره صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج من إيلائه بالتسعة والعشرين يوما ونزلت هذه الآية بدأ بعائشة – وكانت أحبهن إليه – فقال : " إني ذاكر لك أمرا عليك ألا تعجلي حتى تستأذني أبويك " ثم خيرها وتلا عليها الآية فاختارته . وتتابع سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم على رأي عائشة رضي الله تعالى عنهن . وفي الحديث طول إلا أن هذا معناه {[10329]} .