19 - قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } إلى قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء } :
اختلف المتأولون في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } ، فقال{[3264]} ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها إن شاؤوا تزوجوها ، وإن شاؤوا منعوها الزواج حتى الموت ، فنزلت الآية .
قال أبو أمامة ابن سهل ابن حنيف{[3265]} : لما توفي أبو قيس ابن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية .
فنزلت في ذلك واسم ابنه محض{[3266]} واسم{[3267]} المرأة على ما ذكر عكرمة : كبيشة بنت معن الأنصارية . وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة وفي قريش مباحة على التراضي ، وقد خلف أبو عمرو ابن أمية على{[3268]} امرأة أبيه بعد موته ، فولدت من أبي عمرو مسافرا وأبا معيط . وكان لها من أبيه أبو العيص وغيره{[3269]} فكان بنو أمية أخوة مسافر أبي معيط وأعمامهما . وقال بمثل{[3270]} هذا القول عكرمة وأبو مجلز{[3271]} والحسن البصري{[3272]} . وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها ، وقال السدي : كان ولد الميت إذا سبق فألقى على امرأة أبيه ثوبه{[3273]} فهو أحق بها وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها . والروايات في هذا كثيرة بحسب سيرة الجاهلية فعلى هذا القول في الآية يكون الموروث النساء ، والمعنى : لا تجعلوا النساء كالمال يورثن عن الرجال الموتى كما يورث المال . والمخاطبون أولياء الموتى . والتقدير : لا يحل لكم أن ترثوا{[3274]} آباءكم وأقرباءكم نكاح نسائهم . وقال بعض المتأولين : معنى الآية : لا يحل لكم عضل النساء/ اللواتي أنتم لهن أولياء وإمساكهن{[3275]} دون تزويج فترثون{[3276]} أموالهن ، وعلى هذا القول يكون الموروث المال دون النساء ، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس . . . والمخاطبون بالآية على هذا التأويل أولياء النساء .
واختلف المتأوّلون أيضا في معنى قوله تعالى : { ولا تعضلوهن } الآية ، فقال ابن عباس وغيره : هي أيضا في نهي أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة ويمسكونها حتى تموت إذا كانت ذميمة ، فالمعنى ، لا تحبسوهن عن نكاح من أردن نكاحه حتى يمتن من أموالهن{[3277]} ما كان أعطاهن موتاكم من صدقاتهن ، وقال نحوه الحسن وعكرمة . ومعنى قوله تعالى{[3278]} : { آتيتموهن } على هذا القول ، أي : آتاها الرجل قبلكم . وقال ابن عباس أيضا : هي للأزواج{[3279]} أن يمسك أحدهم المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه ، فذلك لا يحل له ، وقال بعضهم : نهى الزوج بعد فرقة{[3280]} المرأة عن عضلها عن التزويج وكان ذلك من فعل الجاهلية . وقال ابن زيد : هذا العضل المنهي عنه في الآية هو من سير الجاهلية ، كان في قريش بمكة إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على أن تتزوج إلا بإذنه ويشهد عليها بذلك ، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل{[3281]} ففي هذا نزلت الآية . وأقوى هذه الأقوال والذي عليه{[3282]} الجمهور أن المراد بالآية الأزواج وأنهم المخاطبون{[3283]} وبحسب ذلك تجاذب الفقهاء الآية واحتج بها أكثرهم في أمر الخلع ، واختلف المتأولون في الفاحشة المبينة ما هي ؟ فقال قوم : هي الزنا ، وقال قوم : الفاحشة المبينة هاهنا شتم العرض وأن تبذو عليه بلسانها أو تخالف أمره ، لأن كل فاحشة وصفت في القرآن مبينة{[3284]} فهي في باب النطق . وكل فاحشة أتت فيه مطلقة لم تنعت بمبينة ، فالمراد بها الزنا . وقال بعضهم{[3285]} : المراد بها/ الزنا والأذى والنشوز والبذو باللسان وما أشبه ذلك . واختلف في قوله : { إلا أن يأتين } هل هذا الاستثناء متصل أو منفصل ؟ وعلى هذا{[3286]} اختلف الفقهاء في الرجل إذا نشزت عليه امرأته أو أحدثت حدثا من زنا أو غيره ، هل له أن يضارها حتى تفتدي منه أم لا ؟ فذهب مالك ومن تابعه إلى أنه ليس له ذلك وأنه إنما له من ذلك ما كان لغير ضرر منه وطابت به نفسها لقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا } [ النساء : 4 ] ، {[3287]} واختلف في الاستثناء على هذا القول ، فقيل : هو{[3288]} متصل والآية تعطي جواز الإضرار حتى يأخذ{[3289]} ما أتاها ، ولكن نسخ بالحدود وهو قول ضعيف ، وإلى نحو{[3290]} هذا ذهب عطاء{[3291]} ، وقيل : بل الاستثناء منفصل ، والتقدير : ولكن إن أتين بفاحشة مبينة لكم أن تقبلوا منهن في الفداء ما طابت به أنفسهن . وذهب قوم من أهل العلم إلى أن الرجل{[3292]} إن أتت امرأته بشيء مما ذكرنا من زنا وغيره أن يضيق عليها حتى تفتدي منه وجعل الاستثناء أيضا متصلا ، والآية محكمة .
وإذا قلنا أنها إذا {[3293]} نشزت جاز له أن يأخذ منها ، فهل له أن يأخذ منها {[3294]} جميع ما أعطاها أم لا ؟ فذهب مالك {[3295]} وغيره إلى أنه جائز أن يأخذ جميع ما تملك . وقال بعضهم : يجوز ولكن لا يتجاوز ما أعطاها ، واحتجوا بقوله تعالى : { لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن } .
قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } :
أمر للجميع ؛ إذ لكل أحد عشرة ، زوجا كان أو وليا ، ولكن الملتمس {[3296]} بهذا الأمر في الأغلب الأزواج . والعشرة المخالطة والممازجة ، ومنه قول طرفة :
فلئن شطت نواها مرة *** لعلى عهد حبيب معتكر {[3297]} {[3298]}
وقوله : { بالمعروف } اختلف فيه ، فقيل : بالمعروف في المبيت والكلام ، وقيل : إمساكهن بأداء حقوقهن التي لهن {[3299]} أو تسريحهن بإحسان . والآية ينبغي أن تحمل على العموم مما تقتضيه المعاشرة بالمعروف من {[3300]} المهر والنفقة والعدل في القسم وأن {[3301]} لا يعاتب ولا يعاقب على غير ذنب {[3302]} ونحو ذلك .
واختلف العلماء في الزوجة إذا كانت ممن {[3303]} لا تخدم نفسها هل يجب على الزوج إخدامها أم لا ؟ فالجمهور على إيجاب ذلك . وذهب داود {[3304]} إلى أنه لا يجب أن يخدمها . ودليل الجمهور مقتضى قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ، وإذا قلنا بوجوب الخدمة فما الذي يجب عليه منها ؟ فقيل : لا يجب عليه لها أكثر من خادم واحد ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عن مالك . وقيل : وإن كانت لا يكفيها خادم واحد وحال الزوج يحتمل أخدمها خدمة مثلها ، ودليل هذا القول قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } .
وقوله تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } :
فيه بيان استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس وفيه دليل على أن الطلاق مكروه ، وهو موافق لقوله عليه الصلاة والسلام{[3305]} : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " {[3306]} .