29 - قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم } الآية{[3712]} ، إلى قوله : { ولكل جعلنا موالي } :
قال عكرمة : في هذه الآية نهي بعضهم عن أكل طعام بعض ، ثم نسخ بقوله : { ولا على أنفسكم{[3713]} أن تأكلوا من بيوتكم } الآية [ النور : 61 ] ، وهذا الذي ذكره عكرمة إنما هو تخصيص . وأما تسميته نسخا ففيه خلاف ولا يصح في النظر ، ولأجل هذا القول قال بعض الناس : إن الهبات والصدقات من أكل الأموال{[3714]} بالباطل ، وأنها داخلة تحت النهي ، إلا أنه نسخ بالإجماع أو بالآية المتقدمة ، وهو قول ابن عباس . والأظهر أن الآية لا تفهم تحريم{[3715]} الهبات التي يبتغي بها الأغراض الصحيحة وإنما حرم الله تعالى مثل أكل المال{[3716]} بالقمار والخمر والإغرار{[3717]} مثل أثمان البيوع الفاسدة . وانظر إلى هذا{[3718]} مسألة النهبة{[3719]} التي تنثر على رؤوس الصبيان ، ومسألة من أتى بطعام واجتمعوا للأكل هل{[3720]} لهما تعلق بهذه الآية .
وقوله : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } أباح الله تعالى في هذه الآية{[3721]} التجارات وهي اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح ويؤخذ منه{[3722]} جواز طلب القوت بها . وفي هذا دليل على فساد قول من ينكر طلب الأقوات بالصناعات والتجارات من المتصوفة الجهلة ؛ لأن الله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وأحلها بالتجارة وفي إحلاله تعالى ذلك{[3723]} إباحة أن يشتري الإنسان سلعة من آخر بدرهم وهي تساوي مائة . وهذا إذا كان البائع عارفا بالقيمة ، فما أحسب أن فيه خلافا أما إن لم يكن عارفا بالقيمة ، فالمشهور إمضاء البيع لما قدمناه من دليل الآية . وهذا هو الذي يسمى بيع الغبن . وحكى ابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث . وذكره{[3724]} بعضهم عن ابن وهب ومن{[3725]} ذلك أن يشتري الرجل ياقوتة ولا يظنها ياقوتة{[3726]} ، ولا يعرفها البائع ولا المبتاع فيساوم فيها الرجل صاحبه ويبتاعها منه بما يتفقان عليه ثم يظهر أنها ياقوتة{[3727]} أو غير ياقوتة . فالمشهور أن لا رجوع لأحدهما على صاحبه ، لأن هذا ليس من أكل أموال الناس بالباطل ، بل هو أكل الأموال{[3728]} بالتجارة ، كما أباحه في قوله : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . وقد قيل : إنه يرجع بذلك ، وهو ظاهر ما وقع{[3729]} لمالك في غير ما كتاب . وهذا يسمى بيع الغلط ، وهاتان البيعتان ، بيعة الغلط وبيعة الغبن ، إنما يكون القول فيهما{[3730]} على ما ذكرناه ، إذا كانتا{[3731]} في بيع المكايسة . وأما بيع الاستمانة{[3732]} ، وذلك أن يأتي الرجل بالسلعة وهو لا يعرف ما تساوي ويستمين{[3733]} في معرفة ذلك إلى المشتري فيشتريها{[3734]} منه ثم يظهر أنها تساوي أكثر من ذلك{[3735]} ، فهذا لا خلاف{[3736]} فيه{[3737]} أنه من{[3738]} أكل أموال الناس بالباطل .
واختلف في اللقطة هل لملتقطها استنفاقها بعد السنة على وجه التملك أم لا ؟ على أربعة أقوال ، أحدها : أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون له وفاء . والثاني : أن ذلك لا يجوز{[3739]} إلا أن يكون ملتقطها محتاجا ، وهو قول أبي حنيفة . والثالث : أن ذلك جائز له على كل{[3740]} حال ، وهو قول الشافعي . والرابع : أن ذلك لايجوز على{[3741]} حال بل هو مكروه ، وهو قول مالك{[3742]} وهو في الصحيح ؛ لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ، فإن أكلها بعد التعريف فعليها غرمها{[3743]} . وذهب داود إلى أن لا غرامة عليه . والصحيح ما قدمناه{[3744]} لأن هنا من أكل أموال الناس{[3745]} بالباطل . واختلف في الرجل يمر بجنان غيره أو بغنمه هل له أن يأكل من الفاكهة ويشرب من اللبن إذا لم يكن محتاجا إليه ، لأن المحتاج لا خلاف أن له{[3746]} أن يأكل . فقيل : جائز له أن يأكل ويشرب لصديق كان ذلك{[3747]} أو لغير صديق ، وقيل : إن كان لصديق كان له أن يأكل{[3748]} وإن لم يكن لصديق لم يكن له ذلك . قال بعضهم : وهذا أعدل الأقوال ، وأولاها بالصواب ، وهو قول الليث{[3749]} . وقيل : أن ذلك ممنوع ، لصديق كان أو لغير صديق ، لقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وهذا من أكل المال بالباطل ، وهو قول مالك{[3750]} قال بعضهم : وهذا في ثمر الحائط دون لبن الماشية . لحديث ابن عمر{[3751]} في الماشية . وقيل : بل ذلك في ثمر الحائط ولبن الماشية سواء ؛ لحديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه{[3752]} قال : { إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه به ، فإن أذن له فليحلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا ، فإن لم يجب أحد فليحلب وليشرب } ، ولا يحمل{[3753]} وإن كان على تلك الغنم أو الحائط أجير وأخبره الأجير أنه أذن له في أن يطعم أو يسقي{[3754]} فهل يصدقه في ذلك ؟ روايتان عن مالك . والأظهر أن{[3755]} لا يصدقه في ذلك ؛ لأنه بذلك متعد على مال الغير{[3756]} ، لأن صدقه لا يعلم فيكون من أكل المال{[3757]} بالباطل .
وقوله تعالى : { عن تراض } علق تعالى التجارة التي تنتقل{[3758]} بها الأملاك بالتراضي خاصة دون التفرق بالأبدان ، فيأخذ مالك بهذا الظاهر ، ورأى أن تمام التجارة التراضي بالألسنة ، فإذا كان ذلك انخرمت التجارة ولم يكن لأحدهما بعد خيار . وبهذه الآية استدل{[3759]} أصحاب مالك وأبي حنيفة{[3760]} في المسألة المذكورة ، ونظيره{[3761]} من الاستدلال استدلالهم{[3762]} أيضا في ذلك{[3763]} بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناديتم بدين{[3764]} إلى أجل مسمى } {[3765]} إلى آخر الآية [ البقرة : 282 ] ، وزعموا أن تلك الآيات كلها تقتضي نفي الخيار &&&الإخبار&&& . وقد رد هذا الاستدلال مثبتو خيار المجلس وغيرهم ، وزعموا أنه ضعيف . وقال الشافعي : تمام التراضي وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، وأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت وذلك بعد عقدة البيع . واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار " {[3766]} ، وهذا الحديث قد تأول على وجوه ليس هذا الكتاب موضع ذكرها .
قوله تعالى{[3767]} : { ولا تقتلوا أنفسكم } :
واختلف في تأويله ، فقيل : لا تتجروا في بلاد العدو فتغرروا بأنفسكم ، وهذا التأويل{[3768]} في النهي عن التجارة إلى أرض{[3769]} الحرب يوافق مذهب مالك وغيره في تشديد الكراهية{[3770]} في التجارة إلى بلد الحرب ، وإن كان قد جاء عن مالك ما يظهر منه{[3771]} إجازة ذلك . وقال بعضهم : المقصود بالآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا ، وأن يقتل الرجل نفسه بقصد منه إلى ذلك وأن يحملها على غرر ما مات منه{[3772]} ، وقد احتج عمرو ابن العاص بهذه الآية حين أجنب وتيمم وصلى بالقوم ولم يغتسل بالماء البارد خوفا على نفسه منه ، فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه . ومن أكره على الكفر فاختار القتل فلا خلاف فيه{[3773]} أنه أفضل ويخصص{[3774]} هذا من الآية بالإجماع . وأما من أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له ، فاختلف في الأفضل من ذلك . فقال أصحاب مالك{[3775]} : الأخذ بالشدة واختيار القتل أفضل وذهب جماعة إلى أن إتيان ما أكره عليه أفضل ، وأنه لا يحل له قتل نفسه وحجتهم ظاهر هذه الآية .