33 قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } :
اختلف في سبب نزولها{[6193]} ، فقيل{[6194]} : إنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد{[6195]} ، فنقضوا العهد ، وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في{[6196]} الأرض ، وهو قول ابن عباس والضحاك ، ويشبه أن يكون هو{[6197]} الذي قالوه{[6198]} في نازلة بني قريظة إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : نزلت في المشركين ، وهو قول عكرمة والحسن ، وهو بعيد ، لقوله تعالى{[6199]} : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] ؛ إذ لا خلاف أن توبة المشرك تسقط عنه ما لزمه من الأحكام في حال كفره سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها . وقيل : إن الآية نزلت في نفر{[6200]} من{[6201]} عكل وعرينة{[6202]} أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة ، وقال : " اشربوا من وألبانها{[6203]} وأبوالها " {[6204]} ، فخرجوا إليها{[6205]} ، فلما صحوا قتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، فجاء الصريخ إلى{[6206]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فنودي : يا خيل الله اركبي ، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6207]} على إثرهم فأخذوا . وقال جرير : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم ، قال جميع الرواة{[6208]} فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، وتركهم في جانب الحرة{[6209]} يستسقون فلا يستقون . وفي بعض الروايات{[6210]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد أن قتلهم{[6211]} . قال أبو قلابة : وهؤلاء كفروا ، وحاربوا الله ورسوله ، وقتلوا ، وأخذوا الأموال ، ولم يعلم أن{[6212]}رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بأحد غيرهم لا قبل ولا بعد ، وهذا قول أنس ابن مالك وجرير وابن جبير وابن الزبير{[6213]} وابن عمر و غيرهم ، وهذا القول لمخالفة{[6214]}حكم{[6215]} رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم ما{[6216]} تضمنته الآية من العقوبات مع تظاهر{[6217]} الآثار بأن الآية إنما وردت بعد الذي كان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولئك النفر . وقيل : إن الآية نزلت ناسخة لفعل{[6218]} النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك ورفعت{[6219]} الآية هذه{[6220]} الحدود . قال بعضهم : وجعلها الله تعالى عتابا لنبيه صلى الله عليه وسلم{[6221]} على سمل الأعين . وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين أولئك{[6222]} النفر ، وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عنه{[6223]} . وقال بعض{[6224]} من يضعف النسخ فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم سملوا{[6225]} أعين الرعاء ، لذلك سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم . وقيل{[6226]} : - وهو أحسن ما قيل في الآية- : أنها نزلت في المحارب المؤمن أو الذمي فيتحصل من هذا أنها اختلف فيمن{[6227]} وردت فيه{[6228]} الآية ، فقيل : في الكفار والمحاربين ، وهذا ضعيف ؛ لأن الله تعالى قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] ، والكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقط قبل القدرة{[6229]} . وقيل : إنها نزلت في المرتدين ، وهذا أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ، والكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة{[6230]} بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة{[6231]} ، لأن المرتد يستحق القتل لنفس{[6232]} الردة دون المحاربة{[6233]} ، والمذكور في الآية إنما هو من لا يستحق القتل ، وأيضا فإن الآية فيها نفي{[6234]} من لم يتب قبل القدرة عليه{[6235]} ، والمرتد لا ينفي ، وأيضا فإن المرتد لا يقطع من خلاف ويخلى{[6236]}/ سبيله بل يقتل إن لم يسلم ، ولا يصلب أيضا . وقيل : إنها نزلت في قطاع الطريق من المسلمين . وقيل : إنها نزلت في المحاربين من المسلمين كانوا أو من أهل الذمة وهو أحسن ما قبل .
وقوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } :
إنما هنا للحصر ، وقوله : { يحاربون الله ورسوله } تغليظ على ارتكاب نهيه ، وهذا مثل قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } [ الأنفال : 13 ] ، وقال : { يحادون الله ورسوله } [ المجادلة : 5 ] ، وذلك كله مستحيل على الله تعالى{[6237]} ؛ إذ هو ليس بمكان فيشاق ويحاد ويحارب ، وإنّما ذكر ذلك على جهة المبالغة في إظهار المخالفة ، وكان يجوز أن يسمي كل عاص بهذا الاسم ولكنه لم يرد{[6238]} ذلك . وقيل : التقدير يحاربون عباد الله وهذا أولى ، فإن الذي يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر ، وقاطع الطريق من المسلمين ليس بكافر ، وكأنه{[6239]} أراد بذلك تعظيم المحاربة وإكبار قدر المعصية .
وقوله تعالى : { ويسعون في{[6240]} الأرض فسادا } :
تبيين للحرابة ، أي ويسعون لحرابتهم{[6241]} ، ويحتمل أن يكون المعنى{[6242]} يسعون فسادا{[6243]}مضافا إلى المحرم ، والجامع لهذه الأوصاف كلها الحرابة .
وقوله : { أن يقتلوا } :
هو تفعل من القتل ، وقتل المحارب أن يضرب عنقه بالسيف ولا يبعث به في القتل{[6244]} .
وقوله تعالى : { أو يصلبوا } :
ظاهر الآية{[6245]} أن الصلب حد قائم بنفسه كسائر الحدود الثلاثة ، لكن الجمهور على أنه مضاف إلى القتل ، وليس أن يصلب ولا يقتل إلا أنه قد وقع لمالك في بعض المواقع أنه قال : يقتل ، أو يصلب أو يقطع أو ينفى من الأرض{[6246]} مثل ظاهر القرآن . وإذا قلنا : إنه مضاف إلى القتل فقد اختلف فيه ، فقيل : إنه يقتل ثم يصلب ليذعر به أهل الفساد ، وهو قول أشهب . وقيل : إنه يقتل ثم يصلب حيا ويقتل في الخشبة ، وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون ، واختيار ابن بكير ؛ لأن الصلب أن يقتل مصلوبا فيسيل دمه وهو في الخشبة من قولهم : تمر مصلب إذا كان صفي{[6247]} ولأن الله تعالى إنما خير في صفة قتله ، ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله لقال{[6248]} أن يقتلوا أو يقتلوا ثم يصلبوا{[6249]} وعلى مذهب من يرى{[6250]} أنه يقتل ثم يصلب{[6251]} يصلى عليه وحينئذ{[6252]} يصلب{[6253]} .
واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يصلب ثم يقتل ، فقيل : لا ينزل منها{[6254]} على كل{[6255]} حال ، ولا عليه ، وقيل : يصف خلف الخشبة ويصلي عليه . والقولان لابن الماجشون . وقيل : ينزل ويصلي عليه ، وهو قول سحنون . واختلف قوله : هل يعاد للخشبة ليذعر به أهل الفساد أم لا ؟ على قولين . واختلف في بقائه مصلوبا ؟ فقيل : ينزل بعد ثلاث ، قال{[6256]} أبو حنيفة وأصحابه ، لأن إبقائه{[6257]} بعد ذلك عندهم{[6258]} مثلة . وقال أصبغ : لا بأس أن يخلى بينه وبين بنيه{[6259]} وأهله ينزلوه{[6260]} ويصلى عليه ويدفن . وحجة هذا القول أن الصلب الذي ذكره الله تعالى قد حصل وما كان{[6261]} بعد ذلك فلا معنى له . والجمهور على أنه لا ينزل حتى تأكله السباع والكلاب ولا يترك أهله ليدفنه ولا يتركون أن ينزلوه ، وهو ظاهر الآية .
وقوله تعالى : { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } :
معناه : أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، واختلف إن{[6262]} لم تكن له اليد اليمنى ، فقال أشهب : تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى . وقال ابن القاسم ، تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى حتى يكون القطع من خلاف كما قال الله تعالى ، وهذا القول أظهر على مقتضى الآية . واختلف في حد القطع من اليد ، فقيل : من الرسغ . وقيل : من الأصابع وهو المروي{[6263]} عن علي . واختلف أيضا في القطع من الرجل ، فقيل : من المفصل . وقيل : من نصف القدم ، ويبقى العقب في الساق{[6264]} وهو المروي{[6265]} عن علي . والقول الذي عليه الجمهور أليق بأن يقع عليه اسم اليد والرجل{[6266]} ، وإن وقع على نصف القدم أو الأصابع فيجوز حمل الآية{[6267]} على ما ليس فيه تجوز أفضل .
وقوله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } :
اختلف في معناه على خمسة أقوال ، فقيل : النفي والسجن وهو قول مالك في راوية مطرف عنه ، وقول أبي حنيفة وأصحابه . وقيل : أن ينفى من بلد إلى بلد ، وأقله ما تقصر فيه الصلاة ، ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته وهو المشهور من قول مالك . وقيل : هو أن يطلبه الإمام لإقامة الحد عليه فيفر{[6268]} ، فلا يقدر عليه ، فيكون ذلك نفيا لا أنه{[6269]} ينفى بعدما{[6270]} يقدر عليه ، بل يقام عليه الحد إذا قدر عليه ولا ينفى . ففي{[6271]} هذا القول إبطال النفي بعد القدرة وإلى نحو{[6272]} هذا ذهب ابن الماجشون . وقيل : هو أن ينفى من بلد إلى بلد آخر دون{[6273]} أن يسجن فيه ، وهو قول سعيد ابن جبير وغيره . وقيل : نفيهم إبعادهم{[6274]} من بلاد المسلمين إلى بلاد المشركين ، وهو قول قتادة والزهري ، وذكر عن مالك بن أنس رحمه الله{[6275]} نحوه ، ذكره{[6276]} الماوردي عنه ، وذكره{[6277]} بعضهم عن غير مالك ، ثم قال : وقاله مالك على أن مالكا قال{[6278]} : لا يضطر مسلم إلى دخول أرض الشرك . وذكر ابن قتيبة في " المشكل " {[6279]} أنه قال : نفيه من الأرض أن يقال من لقيه فليقتله{[6280]} ، ثم قال : ومن جعل النفي{[6281]} هذا أو{[6282]} أن يطلب في كل أرض يكون بها{[6283]} ، فإنه يذهب{[6284]} إلى أن هذا جزاؤه قبل أن يقدر عليه ، لأنه لا يجوز أن يظفر الإمام به فيدع عقوبته{[6285]} ، ثم يقول : من لقيه فليقتله أو يجده{[6286]} فيتركه ثم يطلبه{[6287]} في كل أرض . وإذا{[6288]} كان هذا اختلفت{[6289]} العقوبات ، فصار بعضها لمن لم{[6290]} يقدر عليه وبعضها لمن قدر عليه{[6291]} ، وأشبه الأشياء أن تكون كلها{[6292]} فيمن{[6293]} ظفر به .
وقوله تعالى : { ذلك لهم خزي في الدنيا } الآية :
أشار{[6294]} بالخزي في الدنيا إلى الحدود التي تقام عليهم ، وأخبر أن لهم في الآخرة مع إقامة الحدود عليهم في الدنيا عذاب عظيم . وظاهر هذا أن عقوبة المحارب{[6295]} لا تكون كفارة له كما كان تكون{[6296]} في سائر الحدود ، وقد قال عليه الصلاة والسلام{[6297]} : " ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة " {[6298]} ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا{[6299]} لمن عوقب والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب ، ويجري{[6300]} ذنب الحربي{[6301]} مجرى غيره .