34 وقوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } :
اختلف في تأويلها ، فقيل : هذا في أهل الشرك . وقيل : في أهل الحرب من المسلمين وأهل الذمة وهو الأحسن{[6302]} كما قدمناه{[6303]} . واختلف في قبول توبة المحارب على قولين ، أحدهما : أنها لا تقبل ، قال ذلك من تأول الآية في غير المحاربين وهو قول الحسن{[6304]} . والثاني : أن توبته تقبل{[6305]} ، قال ذلك من تأول الآية في المحاربين{[6306]} ورأى الاستثناء مردودا عليهم وهو أحسن الأقوال كما قدمنا . والذين ذهبوا إلى أن توبته{[6307]} تقبل{[6308]} اختلفوا{[6309]} في صفته على ثلاث أقوال ، أحدها : أنها لا{[6310]} تقبل منه إلا أن يخرج من دار الإسلام ويلحق بدار الحرب . والثاني : أنها لا{[6311]} تقبل منه إلا أن يكون قد لحق بدار الحرب . والثالث : أنها تقبل منه في جميع الأحوال ، كان{[6312]} وحده لا فئة{[6313]} له أو كانت له فئة{[6314]} ولم يلحق بدار الحرب أو كان قد لحق بدار الحرب ، وهذا القول أظهر لعموم الآية ؛ إذ لم يخص محاربا من محارب{[6315]} . واختلفوا أيضا في صفة توبته التي تقبل منه على ثلاثة أقوال ، أحدها : أن توبته تكون بوجهين ، أحدهما : أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام{[6316]} . والثاني : أن يلقي السلاح ويأتي الإمام طائعا{[6317]} ، وهو مذهب ابن القاسم . والقول الثاني : أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ، ويجلس في موضعه ، وتظهر لجيرانه . وأما إن أتى الإمام طائعا وهو مذهب ابن القاسم{[6318]} ، فإنه يقيم عليه حد الحرابة ، إلا أن يكون قد أقام بموضعه حتى لو علم الإمام حاله لم يقم حد الحرابة{[6319]} ، وهذا{[6320]} قول ابن الماجشون . والثالث : أن توبته إنما تكون{[6321]} إلى الإمام{[6322]} وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه{[6323]} حكما من الأحكام ، و{[6324]} إن أخذ قبل أن يأتي الإمام{[6325]} ، وقول ابن الحسن أظهر لعموم قوله تعالى : { إلا الذين تابوا } ، وما يصنعه{[6326]} المحارب من الوجهين المذكورين فهو توبة فيجب{[6327]} أن يكف عنه بها . واختلف{[6328]} أيضا فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال ، القول الأول{[6329]} : أن التوبة لا تسقط إلا{[6330]} حد الحرابة ، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله تعالى ، ومن حقوق عباده{[6331]} . والثاني : أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة{[6332]} ، وحقوق الله{[6333]} والقطع في السرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك . ويتبع بحقوق الناس في الأموال في ذمته ، وفي الدم . والثالث : أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة ، وجميع حدود الله{[6334]} وما أخذ من الأموال إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم فيؤخذ أو يكون دم فيؤخذ{[6335]} به ، وهي رواية ابن مسلم عن مالك . والرابع : أن توبته تسقط عنه جميع ما قبله من حقوق الله وحقوق الناس من دم أو مال ، إلا أن يوجد شيء قائم بيده ، وهذا القول أظهر على{[6336]} لفظ الآية ، لأن الله تعالى قد{[6337]} قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم 34 } ، فظاهر هذا{[6338]} أنهم{[6339]} يغفر لهم كل شيء ، ولا يطالبون به . وقد اختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل فقيل : إن له الأمان ، ويسقط به{[6340]} حد{[6341]} الحرابة . وقيل : لا أمان{[6342]} له ويقام عليه الحد ، وهو قول ابن الماجشون ، والقول الأول أظهر ؛ لأن هذا المحارب تاب قبل أن يقدر عليه فوجب أن تقبل توبته ، لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } . واختلف في القاطع في المصر{[6343]} هل يكون{[6344]} كالقاطع في الفيافي محاربا أم لا ؟ فعن مالك في ذلك روايتان ، أحدهما : أنه محارب ، والأخرى أنه{[6345]} لا يعد محاربا . وحجة القول الأول{[6346]} بأنه محارب عموم قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية ، ولم يفرق . وإذا اجتمع المحاربون فقتل بعضهم ، وكان بعضهم عونا ، ولم يباشر القتل فإن جميعهم عندنا يقتل .
وقال الشافعي : لا يقتل إلا من باشر القتل ، ودليلنا عليه عموم الآية : ولا يجوز عندنا لولي الدم أن يعفو{[6347]} عن المحارب إذا أخذ{[6348]} قبل التوبة خلافا لمن يحكي عنه أن عفوه جائز ؛ لقوله{[6349]} سبحانه : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } {[6350]} بخطاب الآية{[6351]} . وقد اختلف في الذمي هل يكون بالحرابة ناقضا للعهد أم لا ؟ على قولين : الأظهر منهما : على عموم الآية أنه لا يكون ناقضا{[6352]} . وقد اختلف في الذي{[6353]} تقتضيه الآية من الأحكام في المحاربين هل هو على ترتيب أم لا ؟ فقيل : الإمام مخير فيمن لزمته الحرابة بين أن يقتل و{[6354]} يصلب ، وبين أن يقتل ولا يصلب ، وبين أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وبين أن ينفيهم من الأرض ، وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والنخعي ، وهذا هو المشهور من قول مالك ، إلا أنه إذا قتل فلا بد من قتله عنده . واستحسن فيما لم يقتل ولا أخذ مالا أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب ، وحمل من قال هذا القول " أو " {[6355]} في الآية على التخيير . ومن حجتهم أن كل ما قال الله تعالى فيه : أفعل كذا أو{[6356]} كذا فصاحبه بالخيار في فعل أي ذلك شاء ؛ مثل قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة : 196 ] ، ومثل قوله في كفارة الأيمان : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } {[6357]} [ المائدة : 89 ] ، الآية . وقيل : هي مرتبة باختلاف{[6358]} صفة المحاربين ، فمن كان من المحاربين{[6359]} ذا رأي أو{[6360]} تدبير قتله ، ومن كان ذا قوة وبطش قطع يده ورجله من خلاف ومن لم يكن ذا رأي ولا بطش عزره وسجنه{[6361]} . وذكر الماوردي ذلك عن مالك وطائفة من أهل المدينة{[6362]} . وقيل : هي مرتبة باختلاف أفعالهم لا باختلاف{[6363]} صفاتهم ، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب . ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب . ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف . ومن كثر وخوف ولم يقتل ، ولم يأخذ مالا{[6364]} عزر ولم يقطع ولم يقتل{[6365]} ، وهو قول الحسن وابن عباس وقتادة والسدي ، وهو مذهب الشافعي ، ونحو هذا{[6366]} حكى اللخمي عن مالك . وقال أبو حنيفة : إن{[6367]} قتلوا أو أخذوا المال فالإمام بالخيار{[6368]} بين قتلهم وصلبهم وبين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم قتلهم ، ومن كان معهم مهيبا{[6369]} مكثرا{[6370]} فحكمه كحكمهم . وقد اختلفت{[6371]} الروايات عن أبي حنيفة ، ففي{[6372]} رواية إذا حارب وقتل{[6373]} وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب ، فإن هو قتل ولم يأخذ المال قتل ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف{[6374]} ، إذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي ، وهذا القول يقارب الأول في زيادة قطع{[6375]} اليد والرجل مضموما إلى القتل والصلب . وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل ، أن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ورجله ، وإن شاء قتله ولم يقطع يده ورجله من خلاف ولم يصلبه ، فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف{[6376]} و{[6377]} إن{[6378]} لم يأخذ مالا{[6379]} ولم يقتل نفي من الأرض ، ونفيه حبسه . وفي رواية أخرى أوجع{[6380]} عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا ، وهو قول الحسن في رواية . وقال أبو يوسف{[6381]} ومحمد : إذا اقتصروا على القتل قتلوا ، وإن اقتصروا على أخذ المال قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن{[6382]} أخذوا المال و قتلوا فإن أبا حنيفة يقول : الإمام{[6383]} مخير بين أربع جهات{[6384]} : إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف{[6385]} ، وإن شاء قطع وصلب ، وإن شاء صلب{[6386]} ، وإن شاء{[6387]} قتل{[6388]} وترك القطع . ومن حجة من رتب أن قال : لما رأينا الله تعالى بدأ بالأغلظ فالأغلظ{[6389]} ، فبدأ بالقتل ثم الصلب{[6390]} ، ثم القطع ، ثم النفي علمنا أنه أراد الترتيب ، ولو قصد التخيير لبدأ بالأخف فالأخف{[6391]} . ألا ترى كفارة الظهار والقتل قد بدأ{[6392]} فيها بالأغلظ فالأغلظ لما أراد الترتيب ، وبدأ في كفارة الأيمان والأذى بالأخف فالأخف لما أراد التخيير . وهذه دعوى لا دليل عليها ، بل الدليل في الآية قائم بنفسه على فسادها{[6393]} ، ألا تراه تعالى{[6394]} قال : { أن يقتلوا أو يصلبوا } ، فبدأ بالقتل وهو أخف من الصلب فكذلك يوجب التخيير على مذهبهم بين القتل والصلب ، وهو لا يقولونه{[6395]} ، وقد قال تعالى في جزاء الصيد : { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين } [ المائدة : 95 ] الآية ، فبدأ بالهدي وهو أغلظ من الإطعام{[6396]} والصيام ، وكان كذلك على التخيير لا على الترتيب . واختلف إذا كان المال الذي أخذه المحارب أقل مما يقطع السارق هل حكمه في ذلك كحكمه في أخذ{[6397]} الكثير أم لا ؟ :
فذهب قوم إلى أنه لا يقطع المحارب إلا إذا أخذ ما يقطع فيه السارق ولم ير مالك ذلك ، ورأى أخذه القليل كأخذه الكثير ، وذلك لأن الحرابة واقع عليه{[6398]} قليلا أو كثيرا ، ولم يأت في الشرع حد له{[6399]} فاستحب عموم الآية في المحاربين لأنه من جملتهم ؛ وقد استدل جماعة{[6400]} فقهاء قرطبة في أيام هشام بن الحكم وحاجبه المنصور محمد بن أبي عامر حين كشف عن{[6401]} عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي القاضي صاحب الردة وجماعة سواه فيما أرادوا من خلع هشام وقتل محمد بن أبي عامر والاستبدال من هشام بابن عمه عبد الرحمان ابن عبد الله{[6402]} ، ووجه بذلك كتابا لعبد الملك بن منذر إلى بعض من واعده على ذلك فأحضره{[6403]} المنصور وأحضر الكتاب{[6404]} بحضرة فقهاء قرطبة وقاضيها ابن زرب ، فاعترف عبد الملك بالكتاب وأنه أراد أن يفعل ذلك ، فاستفتى فيه{[6405]} : فكلهم أفتى بقتله واحتج بالآية{[6406]} : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } {[6407]} [ المائدة : 33 ] الآية ، إلا أبا عمر ابن المكوي{[6408]} ، فقال : لا أرى قتله لأنه رجل هم بمعصية ولم يفعلها ولا جرد سيفا ولا أخاف سبيلا{[6409]} مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " {[6410]} ، فأخذ هشام بفتوى غيره من الفقهاء ، فقتل عبد الملك وابن عمه عبد الرحمان بن عبد الله بن الناصر لدين الله .