- قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس . . . } إلى قوله تعلى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول . . . } :
اختلف في سبب الآية والمقصود بها ، فقال ابن عباس ومجاهد والحسن نزلت في مقاعد الحرب والقتال . وقال قتادة وابن أسلم {[10651]} وابن زيد نزلت بسبب ازدحام الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنافسهم في القرب منه وسماع كلامه ، فيأتي الرجل الذي له السن والقدم في الإسلام فلا يجد موضعا ، فلذلك نزلت الآية . وقال مقاتل : أقام النبي صلى الله عليه وسلم قوما ليجلس في موضعه أشياخا من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية{[10652]} . واختلف في الآية هل هي مقصورة على سببها أم هي عامة في جميع المجالس ؟ فذهب جماعة إلى أنها مخصوصة بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك القراءة بإفراد المجلس ، ومن قرأ في المجالس {[10653]} فذلك مراده أيضا لأن لكل واحد مجلسا من بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه مجتمع لذلك ، وذهب قوم إلى أنها في مجلس القتال خاصة ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة غير مقصورة على سببها فيكون لمجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجلس العرب ومجلس العلم وسائر مجالس الطاعات ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركبا في المجالس{[10654]} " وهو قول مالك رحمه الله تعالى ، فعلى هذا ينبغي التفسح في المجالس وأن لا يضيق أحد على أحد أما أن يقام أحد لأحد فلا ، والآية لا تقتضيه إنما تقتضي الآية التوسع في المجالس وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام ما يؤيد ذلك . روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه ولكن تفسحوا يفسح الله لكم " {[10655]} . وإذا كان المراد في الآية للتفسح في المجالس التوسيع فيه خاصة ، فمن دليل خطاب الآية يظهر ما جاء في الحديث من النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه {[10656]} . وقد اختلف العلماء فيما يحمل عنه نهي النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر . فتأوله قوم على الندب ورآه من باب الأدب ، قالوا لأنه قد يجب على العالم أن يليه أولو الفهم والنهى ويوسع لهم في الحلقة حتى يجلسوا بين يديه . فعلى هذا يكون للعالم أن يقيم من بالمجلس إلى جنبه أو بين يديه ويجلس فيه غيره إذا كان له وجه . وتأوله قوم على الوجوب وقالوا لا ينبغي لمن سبق إلى مجلس مباح للجلوس فيه أن يقام منه واحتجوا أيضا بما روى أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به بعد رجوعه " {[10657]} قالوا فإذا كان أحق به بعد رجوعه كان أولى أن يكون أحق به ما دام فيه . قالوا : وقد كان ابن عمر يقوم له الرجل من عند نفسه فما يجلس في مجلسه ، وهو راوي الحديث ، والله تعالى أعلم بتأويله .
– وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } :
اختلف في النشز المأمور به في الآية ما هو ، قال الضحاك وقتادة والحسن معناه : إذا دعوا إلى قتال أو صلاة ونحو ذلك من الطاعات . وقال قوم معناه إذا دعوا إلى القيام عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أحيانا يحب الانفراد في أمر الإسلام فربما جلس ناس وأراد كل واحد منهم أن يكون أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل ، وقال قوم معناه : انشزوا في المجلس بمعنى التفسح فيه ، لأن الذي يريد التوسعة لا بد أن يرتفع في الهواء ، فإذا فعل ذلك اتسع الموضع فيأتي قوله : { انشزوا } مثل قوله { تفسحوا } .
- قوله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } :
اختلف في تأويله ، فقال قوم المعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء منكم درجات ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ويجيء على هذا قوله تعالى : { والذين أوتوا العلم } بمنزلة قولك : جاءني العاقل والكريم ، وأنت تريد إنسانا واحدا . وقال قوم يرفع الله الطائفتين المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات لكنا نعلم تفاضلهم في تلك الدرجات من موضع آخر ، ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم . وقال قوم – منهم عبد الله بن مسعود – المعنى : يرفع الله الذين آمنوا منكم وتم الكلام ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصب العلماء على إضمار فعل . فالذي يتحصل للمؤمنين على هذا القول الرفع ، وللعلماء الدرجات ، ولهذا قال مطرف : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع{[10658]} .