– وقوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } :
أهل القرى في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية . وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير لأنه عليه الصلاة والسلام لم يحبس من هذه لنفسه شيئا بل أمضاها لغيره . واختلف في صفة فتحها ، فقيل طوعا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وكان حكمه حكم خمس الغنائم . وليس في الآية نسخ على هذا .
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منه شيئا . وقيل بل كانت مما أوجف عليها بالخيل والركاب ولكن كان هذا حكم ما يوجف عليه ثم نسخ بما في سورة الأنفال . وقد مر الكلام على هذه {[10677]} الآية مستوعبا هناك فأغنى عن إعادته . وهذه الآية من المشكلات إذا نظرت مع الآية التي بعدها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال ، ويحصل القول فيها أنه لا خلاف في قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه . . . . } الآية إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب وهي أموال بني النضير . وبذلك فسرها عمر رضي الله تعالى عنه ولم يخالفه أحد في ذلك ، ولا خلاف في هذا النوع أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء . وأما آية الأنفال – قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء . . . } الآية [ الأنفال : 41 ] فلا خلاف أيضا أنها نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، ولا خلاف أن الحكم فيه كما تضمن في الآية . أما الآية الثانية من الحشر وهي قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول . . . . } الآية ، فاختلف أهل العلم فيها ، فمنهم من أضافها إلى الآية التي قبلها في الحشر ورآهما فيما يصير من الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب . ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها الخيل والركاب . وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر . ومنهم من قال إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين المذكورتين{[10678]} . واختلف الذاهبون إلى هذا في ذلك المعنى ، فقيل نزلت في خراج الأرض ومال الجزية وأن ذلك موقوف لمصالح المسلمين . وقيل نزلت في حكم أرض الكفار خاصة إذا أخذت عنوة دون سائر أموالهم . فهي على هذا القول مضافة إلى آية الأنفال إلا أنها في حكم الأرض ، وآية الأنفال في حكم ما عدا الأرض . فمن أهل هذه المقالة من ذهب إلى أن الأرض تقر ولا / تقسم كما يقسم سائر الغنائم واحتجوا لذلك بما فعل عمر رضي الله تعالى عنه فإنه لما فتح العراق سأل قوم من الصحابة قسمتها بينهم . فقال : إن قسمتها بينكم بقي آخر المسلمين لا شيء لهم واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم . . . } الآية ، وشاور عليا في ذلك ، فأشار عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها فيها ويضع الخراج عليها ففعل ذلك . وإلى هذا ذهب مالك رحمه الله تعالى . والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة . ومن أهل هذه المقالة من ذهب إلى تخيير الإمام في ذلك فإن رأى قسمتها قسمها وإن رأى تركها تركها . قال أبو الحسن : والذي ذكر من احتجاج عمر رضي الله تعالى عنه بعيد جدا لأن قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم } لا يعطي أن لهم حقا من الغنيمة وأن غير من شهد الواقعة يستحق منها شيئا . والعجب أن الذين هم في الحياة لا يستحقون إذا لم يشهدوا الوقعة فكيف يستحقها من جاء بعدهم ؟ قال : فدل ذلك على أن معنى الآية ظاهرها وهو ندب الآخرين إلى الدعاء للأولين . قال : ودل هذا على أن الحق هو ما ذهب إليه الشافعي وهو أن ما كان عنوة من الأرضين وغيرها مقسومة على حكم آية الأنفال وأن الذي صنع عمر إنما صنعه بعد استيطاب أنفس الغانمين ورأى اشتراء الأرض منهم{[10679]} . وقد مر الكلام على ترجيح قول مالك على قول غيره بما أغنى عن إعادته .
قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، روي في سبب هذه الآية أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه المواضع المفتتحة وقالوا : لنا منها سهم ، فنزلت الآية تأديبا وزجرا {[10680]} . والآية – إن كانت على سبب – فهي عامة عند جمهور العلماء في جميع الأحكام الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال قوم : إن الخمر محرمة في كتاب الله تعالى بهذه الآية . وانتزع منها ابن مسعود لعن الواشمة والمستوشمة . حكى أن امرأة من بني أسد {[10681]} يقال لها أم يعقوب قالت : لقد قرأت بين لوحي المصحف فما وجدته فذكر لها الآية ، فقالت له المرأة : إني أرى من هذا شيئا على امرأتك ، فقال : اذهبي فانظري ، فذهب فنظرت فلم تر شيئا . وروي أنه رأى محرما في ثيابه المخيطة فقال له : اطرح هذا عنك . فقال له الرجل : لتقرأ علي بذلك آية في كتاب الله : فقال ابن مسعود : نعم ، وتلا هذه الآية {[10682]} .