قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( 199 ) } :
اختلف هل هو منسوخ أو محكم . والذين ذهبوا إلى أنه {[8438]} منسوخ اختلفوا في الناسخ . فقيل هو منسوخ بالزكاة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر أولا قبل نزول الزكاة أن يأخذ ما عفا أي ما أتي به وهو قول ابن عباس والضحاك . قال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن . وقيل هي منسوخة بالأمر {[8439]} بالقتال والغلظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشر سنين لا يقاتل أحدا ثم أمر بالقتال والغلظة فنسخ العفو وهو قول ابن زيد . والذين ذهبوا إلى أنه محكم اختلفوا في التأويل . فقيل المراد {[8440]} بالعفو هنا الزكاة المفروضة{[8441]} وسميت عفوا لأنها قليل من كثير وهو قول مجاهد . وقيل المراد بها شيء من فضل المال عن ظهر غنى يعطى سوى {[8442]} الزكاة وهو قول القاسم {[8443]} وسالم {[8444]} . وقيل المراد بها خذ العفو من أخلاق الناس ليس المراد بها المال وهو قول عبد الله {[8445]} وعروة {[8446]} ابني الزبير وروي عن ابن الزبير وروي عن مجاهد {[8447]} . ومن هذا قول حاتم الطائي :
خذي العفو مني تستديمي خليقتي *** ولا تنطقي في صورتي حين أغضب{[8448]}
وقوله تعالى : { وأمر بالعرف } المعنى واقض فيه بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " ما هذا العرف الذي أمر الله تعالى به ، فقال : لا أدري حتى أسأل العالم فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له : يا محمد : أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك " {[8449]} وهذه الأشياء التي جاءت في الحديث غايات والمعنى هذه فما دونها من أفعال الخير ، فالعرف متردد بين أن يراد به أفعال الخير وبين أن يراد به{[8450]} العوائد الجارية بين الناس مما لا يردها الشرع . واللفظ مشترك بينهما {[8451]} . والقول {[8452]}بالعرف الجاري بين الناس في التنازع أصل مختلف فيه . وأصحاب مالك رحمه الله تعالى يحتجون بهذه الآية كثيرا في إثباته فمن ذلك مسألة النقد إذا ادعى الزوج بعد الدخول أنه دفعه وأنكرت الزوجة . فذهب مالك إلى أن القول قول الزوج لأن العرف بذلك كان جاريا بالمدينة . وكذلك حيث ما جرى ذلك العرف . وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يراعى العرف في ذلك والقول قولهما . وقالت جماعة كل امرأة دخلت على زوجها فذلك قطع لصداقها إلا أن يكون لها عليه بعد الدخول بينة أو كتاب وإلا فبيمينه {[8453]} وورثتهما بمنزلتهما في الاختلاف . واحتج أصحاب مالك على مذهبنا{[8454]} بالآية المتقدمة . ومنها مسألة متاع البيت إذا اختلف فيه الزوج والزوجة فإن كان مما يصلح لهما جميعا فعندنا أنه للرجل مع يمينه وقد قيل هو بينهما {[8455]} بعد {[8456]} أيمانهما وهو قول المغيرة {[8457]} وابن وهب . وروي عن ابن القاسم . وقيل إن كان الرجل حيا فهو له وإن كان ميتا فهو للمرأة وهو قول أبي حنيفة .
وقيل هو للمرأة على كل حال وهو قول ابن عبد الحكم {[8458]} . وقيل تعطى جهاز مثلها {[8459]} ومما بقي فهو للرجل وهو قول أبي يوسف {[8460]} . واحتج أصحابنا لقولهم بأنه لما {[8461]} كان لكل واحد منهما يد في الدار نظرنا لمن يشهد له العرف بقوة دعواه فيكون أحق لقوله تعالى : { وأمر بالعرف } ، وقوله في قصة يوسف عليه السلام : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( 26 ) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ( 27 ) } [ يوسف : 26 ، 27 ] . وأما ما كان يصلح للرجل خاصة وللمرأة خاصة فعندنا أنه يكون لمن يصلح له ، وفي اليمين قولان .
وقيل جميع متاع البيت بينهما نصفين وهو قول زفر {[8462]} والشافعي ووقع لابن حبيب في المبسوطة وقيل متاع البيت كله للرجل إلا الدرع والخمار وشبيهه وهو قول ابن أبي ليلى . وقيل ما أغلقت عليه بابها فهو لها إلا الطيلسان والقميص ونحوه وهو قول الحسن . وقيل ثياب الرجل له وثياب المرأة لها وما تناكرا فيه فهو للذي في يده وهو قول حماد {[8463]} . وقيل ما سوى ثياب الرجل والمرأة فهو بينهما وهو قول ابن حنبل {[8464]} . وقيل جميع متاع البيت للرجل مع يمينه وهو قول المخزومي {[8465]} في المبسوطة . وذكر بعضهم عن الحسن وما جرى عليه أصحابنا في المسألة العرف ويحتجون بالآية . ومنها مسألة الحيازة فعندنا أنه من حاز شيئا عشر سنين فهو له كما جاء في الحديث ولا ينتفع القائم إذا كان حاضرا لتلك الحيازة بإثبات الشيء المحوز له ، خلافا للشافعي في قبول بينة المدعى وإبطاله الحيازة . وحجتنا أن كل دعوى يبطلها العرف فهي غير مقبولة بقوله سبحانه : { وأمر بالعرف } .
ومنها مسألة {[8466]} السقف إذا تنازعا فيه صاحب العلو والسفل . فعندنا أنه لصاحب السفل وقال الشافعي هو بينهما . ودليلنا العرف والاحتجاج عليه .
ومنها إذا تنازع اثنان في حائط بين دارين . ففي المذهب أنه يحكم به لمن يشهد له العرف مثل أن يكون قد فعل فيه ما يفعل الملاك في أملاكهم من الرباط والمعاقل {[8467]} والقمط ووجوه الآجر واللبن {[8468]} وما أشبه ذلك . وقال الشافعي لا يحكم بذلك بل يكون بينهما وقاله أبو ثور {[8469]} وزاد بعد أيمانهما . ودليلنا قوله تعالى : { وأمر بالعرف } . وقد حكم{[8470]} النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المسألة بما ذكرنا أنه مذهبنا . وكذلك إذا كان لأحدهما على الحائط جذوع والآخر لا جذوع له عليه حكم به عندنا لصاحب الجذوع قليلة كانت أو كثيرة . وقال أبو حنيفة إن كانت عدة جذوع حكم له به ، فأما الجذع والجذعان فلا يعتبر بهما . وقال الشافعي لا يعتبر بالجذوع . ودليلنا قوله تعالى : { وأمر بالعرف } والعرف {[8471]} يقتضي {[8472]} أن الإنسان لا يتصرف إلا في ملكه كما لو بنى .
ومن ذلك إذا تنازع رجلان في بيع أو إجارة ونحوهما وادعى أحدهما الصحة {[8473]} وادعى{[8474]} الآخر فسادا وكان الفساد الذي ادعاه عرفا {[8475]} جاريا بين الناس . فالمشهور من القول أن القول قول مدعي الصحة . ومن أصحاب مالك من قال يكون القول قول{[8476]} مدعي {[8477]} عرف {[8478]}الفساد وتفسخ المعاملات . ومسائل العرف كثيرة لا تحصى كمسألة الاختلاف في النقد في البيوع ونحوها وإنما نأتي من المسائل بطرف ليستدل به على ما بقي .
- قوله تعالى : { وأعرض عن الجاهلين } :
اختلف فيه فقيل هو محكم ومن ذلك حديث الحر بن قيس {[8479]} حين أدخل عمه عيينة بن حصن {[8480]} على {[8481]} عمر فجهل عليه فاحتج بالآية الحر على عمر فوقف عندها . وبدليل قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } [ الأعراف : 200 ، فصلت : 36 ] أي في احتمالك وصبرك فاستعذ بالله . وقيل هو منسوخ ، قال ابن زيد : قوله تعالى : { خذ العفو } إلى قوله : { الجاهلين } إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية القتال {[8482]} .