قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا } إلى قوله تعالى : { للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة } {[8285]} :
خاطب الله تعالى بهذه الآية جميع الناس . والمراد من كان من العرب يتعرى عند الطواف بالبيت . وذكر بعضهم أن الذين كانوا يفعلون ذلك ثقيف وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة وبنو مدلج وعامر أو الحارث ابنا عبد مناف . وهذه كانت عادة رجالهم ونسائهم . قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع آيات . وقيل إن الذين كانوا يطوفون عراة قريش . وقيل كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن . وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس ومن والاها وهذا أصح ما في الآية . لأن قريشا وسائر الحمس بعد عام الفيل سنوا سننا {[8286]} تعظيما لحرمتهم {[8287]} منها أن لا يطوفوا عراة . وكان غيرهم إما يعيره أحد من الحمس {[8288]} ثوبا يطوف به وإما أن يتعرى وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها وكان هذا الأمر عند العرب قربة . فكانت تقول : نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف بثياب {[8289]} قد تدنسنا {[8290]} فيها بالذنوب . وقال بعضهم كانوا إذا حجوا نزعوا ثيابهم فرموا بها ثم طافوا عراة فإذا قضوا نسكهم لم يلبسوها وتركوها ملقاة تدوسها الأرجل حتى تبلى . وكانوا يقولون إنها ثياب قد قارفنا {[8291]} فيها الآثام فلا نعود فيها ويسمون تلك الثياب التي كانوا يلقونها عن ظهورهم اللقا {[8292]} .
قال الشاعر :
كفى حزنا كرى عليه كأنه *** لقي بين أيد الطائفين حريم {[8293]}
وكانت المرأة تطوف عريانة حتى إن إحداهن تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** فما بدا منه فلا أحله{[8294]}
قيل والمرأة منهم كانت تتعرى وتشد في حقويها شيئا من سيور {[8295]} منطقة {[8296]} تسمى العرب ذلك الرهط . وأنشد البيت المذكور كانت {[8297]} تطوف وعليها رهط فنهى الله عز وجل عن ذلك . ونودي سنة تسع بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " {[8298]} .
– قوله تعالى : { لباسا } :
فيه تأويلان : أحدهما : أن يريد فأنزلنا خلقنا كقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [ الحديد : 25 ] لأن خلق الله تعالى {[8299]} وأفعاله إنما هو في علو في القدر والمنزلة . والثاني : أن يريد أنزلنا ما يكون عنه {[8300]} اللباس وهو المطر فتجاوز المطر {[8301]} إلى اللباس فأوقع الإنزال عليه وهذا يسمى في كلام العرب التدريج ومثله قول الشاعر :
الحمد لله العلي المنان *** صار الثريد في رؤوس العيدان {[8302]}
وقوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ] .
- وقوله تعالى : { وريشا } :
اختلف فيه فقيل هو المال {[8303]} وقيل هو الجمال {[8304]} وقيل الأثاث {[8305]} . والأليق به أن يقال هو عبارة عن سعة الرزق والتمتع في العيش واتخاذ الملابس ، وأصله من ريش الطائر .
- وقوله تعالى : { ولباس التقوى } :
اختلف فيه أيضا فقيل {[8306]} العمل الصالح وقيل {[8307]} الإيمان وقيل {[8308]} السمت الحسن في الوجه وقيل {[8309]} الحياء وقيل {[8310]} الخشية لله تعالى وقيل {[8311]}هو لبس الصوف وخشن الثياب وكل ما فيه تواضع لله تعالى وقيل {[8312]} هو العفاف وقيل {[8313]}هو استشعار تقوى الله تعالى في ما أمر به ونهى عنه وقيل {[8314]}هو السلاح وآلة الجهاد وقيل {[8315]}هو ستر العورة وقيل {[8316]}هو الورع والسمت الحسن في الدنيا . فهذه عشرة أقوال . وقوله : { ذلك خير } أي لباس التقوى خير من الثياب .
- قوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم } :
استدل به كثير من الفقهاء {[8317]} على وجوب ستر العورة . قالوا لأنه تعالى قال : { يواري سوءاتكم } وذلك إشارة إلى وجوب الستر {[8318]} ورد غيرهم هذا الاستدلال وقال إنما ذكر الله تعالى هذا تنبيها لعباده على ما أنعم به عليهم من اللباس فقط . واحتج أيضا من أوجب الستر بقوله تعالى : { لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما } . وقال من رد هذا الاستدلال إنما ذكر الله تعالى ذلك على جهة التحذير من زوال النعم . قال : وأيضا فإنما جاء هذا في شرع آدم عليه السلام ولم يثبت أن شرعه لازم لنا {[8319]} .
وقوله : { سوءاتكم } يحتمل أن العورة من الرجل سوءتان خاصة . وهي مسألة قد اختلف فيها فقيل العورة السوءتان فقط وهو قول داود {[8320]} ومن حجته ما قدمناه لأنه تعالى إنما ذكر مواراة السوءات خاصة فدل على أن ما عداهما لا تجب مواراته . ورأى أن إطلاق اللفظ إنما يقع على القبل والدبر ، وأما المرأة فقصتها أخرى . وقد قال تعالى فيهن : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } [ النور : 31 ] . وقيل العورة منه السوءتان والفخذان وهو قول بعض أصحاب مالك . وقيل ما بين السرة والركبة هي العورة وهو المشهور في المذهب وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وقيل من {[8321]} الركبة إلى الفخذ مع السرة عورة . والحجة لما في المذهب ما جاء في الحديث المبين لكتاب الله تعالى من قوله عليه الصلاة والسلام : " ما بين السرة إلى الركبة عورة " {[8322]} وقوله عليه الصلاة والسلام لجرهد {[8323]} : " غط فخذك فإن الفخذ عورة " {[8324]} وإن كان قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام ما يعارض ذلك ولكنه ضعيف{[8325]} . وأما عورة المرأة فسنتكلم عليها في سورة النور .