وقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } :
هذه الآية هي ناسخة لكل آية مهادنة أو ما جرى مجراها من القرآن . وقد ذكر بعضهم أن آيات المهادنة والموادعة المنسوخة بهذه الآية مائة آية وأربعة عشر آية {[8848]} وقد اختلف في هذه الأشهر على أربعة أقوال : أحدها : أنها الأشهر {[8849]} المعلومة : رجب الفرد والثلاثة السرد : ذو القعدة والحجة والمحرم {[8850]} . والثاني : شوال من سنة تسع إلى المحرم من سنة عشر . والثالث : أنها أربعة أشهر من يوم النحر من سنة تسع . والرابع : أنها تمام تسعة أشهر كانت بقيت من عهدهم . فأما الأول ففاسد لأن ترك القتال فيها منسوخ بالإجماع . والثاني باطل لأن الأجل إنما يكون من يوم الإعلام والإنزال . والرابع باطل أيضا لأن الله تعالى يقول : أربعة أشهر ، وهذا يقول تسعة أشهر . والثالث هو الصحيح لأنه قال : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فاقتضى ذلك أن تكون المدة عقب الإعلام . وقال بعض من زعم أن الأشهر المذكورة في الآية هي المعلومة {[8851]} التي هي ثلاثة سرد وواحد فرد إنما علق الله تعالى قتال المشركين بانقضائها لأن آخرها الذي هو المحرم كان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر ، وهذا قول حسن . وفي الآية أخبار كثيرة بين العلماء .
وقد قال الأصم {[8852]} في هذه الآية : أريد بها من لا عهد له من المشركين فوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم وهو مدة {[8853]} خمسين يوما على ما ذكر ابن عباس {[8854]} واقتضت هذه الآية أيضا أن {[8855]} قتل {[8856]} المشركين بعد الأشهر المذكورة . واختلف في هذه الآية لأجل ذلك هل هي محكمة أم منسوخة . فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] قالوا ولا يحل قتال أسير صبرا فإما أن يمن عليه وإما أن يفادى {[8857]} وهو قول الضحاك وعطاء والسدي والحسن وغيرهم . وقيل بل هي محكمة . واختلف الذين ذهبوا إلى هذا هل هي ناسخة لقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] . فذهب قوم إلى أنها ناسخة له وأنه لا يجوز في الأسير إلا أن يقتل ولا يجوز أن يمن عليه{[8858]} بالعتق ولا أن يفادى به ، وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما . وذهب قوم بأنها ليست بناسخة لتلك وأن الآيتين محكمتان وهو قول ابن زيد {[8859]} . ثم اختلف على هذا القول{[8860]} في ترتيب الآيتين ، فقيل {[8861]} آية براءة في عباد الأوثان فليس فيهم إلا القتل وآية سورة القتال في أهل الكتاب فقط ففيهم المن والفداء .
قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم } معناه وخذوهم أسرى للقتل {[8862]} أو للمن أو للفداء {[8863]} ثم بين ذلك قوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] وقد نسب جماعة هذا التأويل إلى ابن زيد . فهذه أربعة أقوال في حكم الأسير . أحدها القتل {[8864]} خاصة وقيل المن والفداء خاصة وهو قول {[8865]} ، وقيل هو مخير في ذلك ، وقيل أما ما {[8866]} في عبدة{[8867]} الأوثان فالقتل خاصة وأما أهل الكتاب فالمن أو الفداء {[8868]} . وفي المسألة قول خامس أنه لا يجوز إلا المن والفداء بالمسلمين فأما بالمال فلا يجوز لأن ذلك تقوية لهم وهو أضعف الأقوال لعموم الآية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل الوجهين جميعا ومذهب مالك أن الإمام مخير بين خمس {[8869]} خصال : إما أن يقتل وإما أن يمن فيستعبد أو يعتق أو تعقد له{[8870]} الذمة وتضرب {[8871]} عليه الجزية وإما أن يفادى . وهذان القولان {[8872]} أيضا على أن الآيتين محكمتان {[8873]} . وذهب بعض المفسرين في ترتيب الآيتين إلى غير هذا وزعم أنه لم يأت عن ابن زيد أكثر من الآيتين محكمتين {[8874]} بل ذكره مكي والمهدوي {[8875]} عن ابن زيد ، فقال هذا الزاعم {[8876]} قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم } إنما هو في المشرك المحارب الذي لم يتمكن منه وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم وإنما حكمه في الآية الأخرى وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير . وهو قول ضعيف لعموم آية السيف إذ لم يخص محاربا من غير محارب {[8877]} ، وآية السيف هي قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } والأظهر في الآيتين الإحكام وإليه يذهب مالك وقد قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله يوم بدر إذ قتل النضر بن الحارث {[8878]} وعقبة بن أبي معيط {[8879]} صبرا وهما أسيران وفادى بقوم . واختلف في الحبشة والترك هل يقاتلون إذا أبوا من الإسلام أم لا على قولين في المذهب والمشهور عن ابن القاسم ومالك أنهم يقاتلون . وقد جاء عن غيرهما ما ظاهره أن لا يقاتلوا {[8880]} لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اتركوا الحبشة ما تركوكم " ومن قوله : " اتركوا الرابضين ما تركوكم الحبشة والترك " {[8881]} والقول الأول أظهر لعموم قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ولم يخص وما ذكر من الحديث محتمل فلا يعدل عن ظاهر القرآن بمحتمل . وفي قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } دليل على جواز قتلهم بأي وجه كان إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة ويجوز أن يكون أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رؤوس الجبال والتنكيس في الآبار تعلق بعموم الآية ، وكذلك علي رضي الله تعالى عنه حين أحرق قوما من أهل الردة تعلق أيضا بهذا العموم .
– وقوله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } :
لم يقنع منهم تعالى بالاعتقاد حتى يظهروا الطاعة بالجوارح وذلك أنه اشترط في تخليتهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أي أن يفعلوا هذه الأشياء مع إيمانهم . وقيل معناه أن يعترفوا بهما لا أن يفعلوهما . وإذا قلنا إنه إنما أراد فعلهما فالذي تقتضيه الأصول أن الإيمان إذا حصل فقد زال الكفر وما كان بعد ذلك من صلاة وزكاة ونحوهما فإنما هي طاعات أوجبها الله تعالى فمن تركها ولم يأت بها مع الإيمان فقد عصى ، وفيها عقوبات على حسب ما ورد من الشرع في ذلك . وأما أن يقال إنه كافر بتركها فبعيد في قياس الشرع وإن كانت قد وردت أخبار تدل على تكفير من ترك الصلاة ، والسابق من ظاهر الآية مثل ما وردت به الأخبار ولكنه يترك الظاهر لما هو أظهر . ولأجل هذا اختلف فيمن أسلم هل يقنع منه بكلمة الشهادة مع الاعتراف بالطاعة أم لا يقنع منه بكلمة الشهادة مع الاعتراف حتى يصلي .
فمنهم من قال إنه إن نطق بكلمة الشهادة مع الاعتراف بما أظهر فذلك إعلام صحيح وإن رجع بعد ذلك فهو مرتد يقتل كما يقتل المرتد . ومنهم من قال إن صلى ولو ركعة فقد صح إسلامه وإن رجع بعد ذلك فهو مرتد وأما إن لم يصل فلا يكون مرتدا إن رجع عن إسلامه ولكنه يعاقب وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك والأول قول أصبغ وقاله ابن حبيب أيضا . ومتى قلنا بصحة إسلامه بالنطق بكلمتي الشهادة مع الاعتراف ثم ترك الصلاة فحكمه حكم المؤمن الأصلي بترك الصلاة وإذا لم نقل {[8882]} بصحة إسلامه بذلك حتى يصلي فهو ما لم يصل لا يحكم عليه في ترك الصلاة بحكم المؤمن الأصلي وذلك لأنه بعد لم يصح إسلامه {[8883]} . وقد اختلف في المؤمن الأصلي يترك الصلاة بغير عذر مع إقراره بفرضها – لأن من لا يقر بفرضيتها فلا خلاف في كفره – فقيل هو كافر ينتظر به آخر وقت {[8884]} الصلاة {[8885]} ، فإن صلى وإلا قتل وكان ماله لجميع المسلمين وهو قول علي وابن عباس وغيرهما وإليه ذهب ابن حبيب . والثاني أنه ليس بكافر ولكنه يقتل على فعل{[8886]} ذنب من الذنوب لا على كفر ويرثه ورثته المسلمون . وهو قول مالك والشافعي وجماعة سواهما . وقيل إنه لا يقتل بل يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يتوب ويرجع ولا يقتل وهو قول ابن شهاب وغيره وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه {[8887]} والقول الأول أظهر إلى لفظ الآية ، والقول الثاني في القياس والقول الثالث حجته قوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " {[8888]} . واختلفوا أيضا فيمن لا يؤدي الزكاة مع إقراره بفرضها لأنه إذا لم يقر بفرضها فهو كافر بلا خلاف . فقيل هو كافر {[8889]} وهو قول ابن حبيب ، وقيل هو ليس بكافر وهو قول الجمهور ، قالوا لكنه يضرب وتؤخذ منه كرها {[8890]} إلا أن يمتنع في جماعة فإنهم يقاتلون حتى تؤخذ منهم {[8891]} . والقول الأول أظهر على لفظ الآية ، والثاني أولى بالاتباع إذ هو الذي ذهب إليه جماعة الصحابة في قتال أهل الردة .